حكايتنا مع «ساكنة» البيت الأبيض
غريب وعجيب أمر القادة والحكام في العالم العربي... إن جاءهم رئيس أمريكي مهجوس بقوة أمريكا وعظمتها، متشوق للغزو والحروب والاجتياحات، ثارت ثائرتهم، وأنزلوا بالولايات المتحدة كل ما يليق بها، وما لا يليق، من اتهامات وشتائم، وعلقوا حول عنقها، اوزار الكوارث التي أصابتهم وتصيبهم، وعاودوا مزاولة حنينهم للماضي ... هكذا كانت حالهم مع جورج بوش الابن، الذي غزا العراق وأفغانستان، وأطلق الأيادي والأذرع الإيرانية في المنطقة، وأخرج مارد الإرهاب من قمقمه ... هو الرئيس التي يتلقى «هواتف ليلية غامضة» ويستمع لأصوات غير بشرية، تدعوه للقتال هنا أو هناك، وإسقاط هذا الزعيم أو ذاك، وتحثه على تدشين ومواصلة حروبه المقدسة، «الصليبية» كما قال ذات «زلة لسان» ... هم يترحمون على جورج بوش الابن مقابل باراك أوباك، ويترحمون في الوقت ذاته، على صدام حسين، مقابل عراق اليوم، موطن داعش و»خلافتها»، بلد الانقسامات المذهبية والطائفية والحروب المتناسلة التي لا تعرف «تهدئة» ولا وقفاً لإطلاق النار.
وإن جاءهم باراك أوباما، من خلفية أكاديمية «أقلوية عرقياً»، وانتهج سياسة انكفائية، غير تدخلية كسياسة سلفه، حملوا عليه، واتهمهوه بالجبن والتخاذل ... يستلون من قاموس البادية ودوواين الصحراء، قصائد في مديح «الذكورة» و»الرجولة» و»الشجاعة» و»الغزو»، ليستشهدوا بها في هجاء نقائضها وتحقيرها، بعد أن ألصقوها بأول رئيس أسود يسكن البيت الأبيض ... في ظني أن قاموساً كهذا، لم يعد مفهوماً في عالم اليوم ولغة العصر الحديث، وربما لهذا السبب بالذات، لم تصل رسائلهم الطافحة بالرجاء والهجاء وتعابير الخيبة والخذلان إلى من يعنيهم الأمر في واشنطن.
وهم اليوم على موعد مع رئيس جديد، من ذوي «الرقاب الحمراء –Red Nicks»، جهلهم به وبتوجهاته، يقلقهم أشد القلق ... جاءهم في التوقيت «الغلط» محمّلاً بفائض من «عقلية البيزنيس»، ليطرح عليهم معادلة بسيطة «لا وجبات مجانية بعد اليوم –No Free Meals Any More»، تقلقهم لهجته الآمرة، وعقلية «المرابي» التي تطبع تصريحاته، مثلما تقلقهم أولوياته التي لا تنسجم كثيراً مع أولوياتهم، وقد لا يمضي زمن طويل، قبل أن يعودوا إلى الترحم على أياما باراك أوباما، أمام جشع الساكن الجديد للبيت الأبيض، الذي لا يرى في السياسة الخارجية، سوى مجموعة متصلة من «الصفقات المربحة».
نقلق إن جاءنا رئيس «تدخلي»، فخلف جيوشه وجحافله، لا يحل سوى الخراب والدمار والفوضى الهدامة ... ونقلق إن جاءنا رئيس «انكفائي»، فإثر انسحابه أو انسحابيته، ينشأ فراغ لسنا مؤهلين لملئه، وسيملؤه، وقد ملأه غيرنا ... إن جاءنا رئيس يتحدث بلغة المبادئ والقيم كما في خطاب القاهرة، نضع أصابعنا على الزناد ... وإن جاءنا رئيس يضرب عرض الحائط بها، نقلق لدعمه أنظمة استبدادية ودكتاتورية، أو ينحاز لروسيا بوتين ... في مطلق الأحوال لسنا سعداء بمن يأتي أو يروح في واشنطن، واحسب أن الحال سيتسمر على هذا المنوال حتى إشعار آخر، نلعن رئيساً قبل أن نعود للاشتياق إليه والتحسر على عهده «الميمون».
والحقيقة أن سبب ردود أفعالنا المتهافتة على ظاهرة تعاقب الرؤساء والإدارات في واشنطن، إنما يقبع في دواخلنا، ولا تفسير لها إلا بعجزنا، فالدول التي تعرف ما تريد، وتستحق أن تسمى دولاً تحفظ سيادتها وتصون مصالحها العليا وتدرأ الأذى عن مواطنيها، وتعرف كيف تعظم مكاسبها وتكرس استقلاليتها، هي دول لا تخشى تعاقب الحكام والإدارات ... بيد أن الدول الهشّة، التي لا فرق فيها بين الدولة والنظام، المسكونة بهاجس ديمومة الحكم والحاكم، هي الدول دائمة التعلق بقشة الخارج، وتنتظر «الترياق» من البيت الأبيض ... وتعلق كل رهانات وتطلعاتها، على «كسب رضا» ساكنة هذا البيت .
على هؤلاء الذين سارعوا لـ «كسر الجرار» وراء أوباما، ألا يفرحوا كثيراً، وأن يخصصوا لحظة لتأمل سيناريو قيام إدارته باجتياحات «بوشية» الطراز، لسوريا وليبيا واليمن، وربما غيرها ... ما الذي كانت ستؤول إليه أحوال المنطقة، وهل نجحت سيناريوهات الغزو الأول للعراق وأفغانستان، حتى نفترض نجاح سيناريو الغزو المفترض لسوريا ليبيا واليمن؟ ... على هؤلاء ألا يتمادوا في التعبير عن البهجة، فربما يأتيهم، وقد لا يكون بعيداً، قبل أن يعودا للترحم عليه والاشتياق له.
يبدو أن كثيرا من الحكومات والأنظمة عندنا لم تبلغ بعد سن «الفطام» عن ثدي الحماية الأجنبية، على الرغم من الاحتفالات المهيبة التي تشهدها دولنا بذكرى الاستقلال والتأسيس والأعياد الوطنية والقومية ... ويبدو أننا سنظل في حالة دائمة من «العصبية» و»النرفزة» التي تسيطر على الطفل الرضيع في الأسابيع الأولى لفطامه ... وإلى أن نبلغ سن الرشد والأهلية القانونية، سيقضي الله أمراً كان مفعولا.
الدستور 2017-01-12