نواقص المؤتمر الدولي للسّــلام
كان مؤتمر السّلام الذي عُقد بمبادرة ٍ من الحكومة الفرنسيّة ما بين إسرائيل والفلسطينيين في باريس في الخامس عشر من شهر يناير / كانون الثاني الحالي إيجابيّا ً في كثير ٍ من الجوانب. فقد أشار البيان الختامي الذي اتُفق عليه جماعيّا ً إلى ضرورة إنشاء دولة ٍ فلسطينيّة كشرط ٍ أساسي للسّلام والإستقرار وحثّ الطرفين على إعادة إلزام نفسيهما بحلّ الدولتين وأكّد على الحاجة الملحّة لكلا الجانبين لاتخاذ خطوات لإبطال التوجهات الحاليّة من تحريض فلسطيني وتوسّعع إسرائيل في بناء المستوطنات. وقد دعا البيان، إضافة ً إلى ذلك، إلى إنهاء الإحتلال وأبرز أهميّة مبادرة السّلام العربيّة - التي انطلقت لأول مرّة في عام 2002 – في تقديم الإطار لسلام ٍ عربي – إسرائيلي شامل. وأكّد القرار أيضا ً على أهمية الحوار الشعبي وتعزيز دور المجتمع المدني ومعالجة الوضع الإنساني والأمني في قطاع غزّة.
ولعلّ من أهمّ أسباب انعقاد المؤتمر، على أية حال، قبل بضعة أيّام فقط من تنصيب الرئيس المنتخب دونالد ترامب هو توجيه رسالة إلى الإدارة الأمريكيّة الجديدة حول الوفاق الدّولي المتعلّق بالصّراع الإسرائيلي – الفلسطيني على أمل منع ترامب من اتخاذ أيّ إجراء من شأنه أن يهدّد إمكانيّة حلّ الدولتين.
ومن مخاوف المؤتمرين الأساسيّة هو الوعد الذي قطعه ترامب على نفسه أثناء حملته الإنتخابيّة بنقل السفارة الأمريكيّة من تل أبيب إلى القدس وإعطاء نتنياهو حريّة التصرّف في توسيع المستوطنات، الأمر الذي قد ينسف أمل إحلال السّلام ويستفزّ الدول العربيّة في وقت ٍ العالم بحاجة ٍ لها لدعم أية مبادرة ٍ جديدة للسّلام.
وبالرّغم من أنّ الحلّ كان إلى حدّ كبير في الهدف، فقد كان ينقصه اقتراحات محدّدة بإمكان إدارة الرئيس دونالد ترامب أن تحتضنها لدعم التقدّم في عملية السّلام بطريقة ملموسة.
لقد كنت منشغلا ً بشكل ٍ مباشر في مسعى لإلقاء ضوءا ً جديدا ً على القضايا الجوهريّة التي فصلت الجانبين عن بعضهما البعض وما تزال، وقد اقترحت من جانبي إجراءات معيّنة لتخفيفها. أجل، قضايا أعتبرها حاسمة لاستئناف المفاوضات بين الجانبين التي قد تحسّن بشكل ٍ ملموس إمكانيّة التوصّل لسلام ٍ دائم. وقد كتبت لهذا الغرض اقتراحا ً مفصّلاً ناقشته مع كبار المسؤولين في وزارة الخارجيّة الفرنسيّة. ومن ثمّ قام السيد بيير فيمونت، المبعوث الفرنسي الخاصّ للشرق الأوسط، والممثّل الخاصّ للإتحاد الأوروبي لعمليّة الشّرق الأوسط، السيد فيرناندو جنتليني، وأنا بمخاطبة لجنة العلاقات الخارجيّة للإتحاد الأوروبي في شهر نوفمبر 2016 حيث أكّدت في اقتراحي على الحاجة إلى انتهاج نهج ٍ جديد.
لقد كان هناك جوانب عديدة في الصّراع كنت متفقا ً تماما ً حولها مع السيد بيير فيمونت - وهذه انعكست في البيان الختامي للمؤتمر- وكذلك قضايا أخرى لم تُوضّح تماما ً. وحسب رأيي، لو تمّ التطرّق لهذه القضايا بوضوح لكانت قد كشفت عن الأسباب الحقيقيّة الكامنة وراء المأزق في الصّراع الإسرائيلي – الفلسطيني ولقدّمت طرقا ً لتخفيفها.
القضيّة الأولى هو البعد السيكولوجي (النفسي) للصّراع وتأثيره على كلّ قضيّة متنازع ٍ عليها. وما لم تُبذل مساعي أساسيّة لتغيير الرواية الشعبيّة على كلا الجانبين لتعكس الحقيقة من الرؤيتين التاريخيّة والدينيّة، لن يتمكّن أيّ من الطرفين القيام بالتنازلات المهمّة والضروريّة لصنع اتفاقيّة سلام. وضرورة تخفيف ذلك من خلال عمليّة مصالحة - من شعب ٍ لشعب ومن حكومة لحكومة – أمر أساسي لمفاوضات بنّاءة. وقد تسمح مثل هذه العملية لكلا الطرفين بتنشئة وتعزيز ثقة متبادلة غير موجودة حاليّا ً على الإطلاق بينهما وتهدئة المخاوف حول الأمن القومي، هذا وتحرّر في نفس الوقت أيضا ً جماهير الناخبين القويّة على كلا الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني من وهم الحصول على كلّ شيء.
القضيّة الثانية هي حركة حماس وموقفها السياسي الذي يعيق وما يزال أي تقدّم. وينصّ قرار المؤتمر على "أهمية معالجة الوضع الإنساني والأمني في قطاع غزّة ودعا لخطوات ٍ عاجلة لتحسين الوضع". وبالرّغم من أنّ هذا ضروريّ ما دامت حماس تدعو لتدمير إسرائيل وليست من الأطراف الموقّعة على مبادرة السّلام العربيّة، فإنها بذلك تدعم موقف الإسرائيليين المتعصّبين الذين يدّعون بأنّ الفلسطينيين يريدون بكلّ بساطة محو إسرائيل بدلا ً من التعايش معها سلميّا ً.
كان من المفروض على المؤتمر أن يطلب من حماس قبول - من حيث المبدأ - حقّ إسرائيل في الوجود وأن يلتمس من دول ٍ مثل تركيا وقطر، التي تمتّع بتأثير جوهري على حماس، أن تحتضن مبادرة السلام العربيّة. هذا ضروري، وبالأخصّ لأنّ حماس يجب أن تكون جزءا ً من أيّ حلّ نهائيّ للصراع.
ثالثا ً، وبالرّغم من أنّ المشاركين قد "عبّروا عن استعدادهم لبذل الجهود اللازمة نحو تحقيق حلّ الدولتين..."، فمن سيبذل هذه الجهود، إقتصاديّة كانت أم حوافز أخرى ؟. لقد كان موقفي بأنه كان ينبغي على المؤتمرين تشكيل لجنة مكوّنة من ممثلين من دولة عربيّة والإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لتشجيع الأطراف على اتخاذ خطوات ٍ معيّنة ومتابعة التقدّم وإزالة المصادر التي تعيقه. وعدا ذلك، ستكون التوصية مجرّد كلمات.
رابعا ً، دعا المؤتمرون "لإنهاء الإحتلال... وتلبية احتياجات إسرائيل الأمنيّة وحلّ جميع قضايا الوضع النهائي على أساس قرارات مجلس الأمن الدّولي 242 (1967) و 338 (1973)...". هذا النّداء هو صحيح بالتأكيد وليس هناك حلّ ممكن إلاّ إذا استوفيت هذه المتطلبات. وهنا أيضاً، رغم ذلك، لا شيء جديد.
كان ينبغي أيضا ً على المشاركين التوصية بإقامة لجنة أخرى للعمل بشكل ٍ وثيق مع كلا الطرفين، إسرائيل والفلسطينيين، للشروع في تعديل مواقفهما العلنيّة بخصوص عدة قضايا رئيسيّة مختلف عليها. مثال على ذلك، كلّ شخص ملمّ بالصّراع يدرك بأنّ حقّ العودة للآجئين الفلسطينيين لا يمكن تطبيقه لأنّ هذا سيغيّر على الفور طبيعة دولة إسرائيل اليهوديّة.ولذا ينبغي على السلطة الفلسطينيّة الشروع في الحديث علناً حول الخيار الوحيد القابل للتطبيق بخصوص حلّ قضية اللآجئين الفلسطينيين، ألا وهو من خلال التعويض و/أو إعادة توطينهم.
وبالمثل، ينبغي على إسرائيل أن تعلم بأنه لن يكون هناك سلاما ً بين إسرائيل والفلسطينيين ما لم تصبح القدس الشرقيّة عاصمة ً لدولة فلسطين. وهنا أيضا ً على الجمهور الإسرائيلي أن يبدأ في التفكير بهذه الأمور جديّا ً ولا ينصاع لخداع قول نتنياهو بأن القدس "الموحّدة" ستبقى العاصمة الأبديّة لإسرائيل، الأمر الذي قد يستبعد أي احتمال للسّلام.
وللتأكيد، حتّى ولو لم يكن للمؤتمرين أية قوّة للتنفيذ، فإنهم بمجرد افتتاحهم مناقشات شعبيّة عامّة حول هذه القضايا سيشكلون تأثيرا ً إيجابيّا ً على عمليّة السّلام. وفي التحليل النهائي، ما دامت الجماهير الإسرائيليّة والفلسطينيّة بقيادة زعماء لا يدعمون العمليّة السلميّة على طول هذه الخطوط ولديهم أجندات سياسيّة مختلفة لا تتوافق بالضرورة مع حلّ الدولتين، ستبقى الجماهير في الظلام وتبقى إلى حدّ كبير راضية ً بالواقع.
أجل، هناك حاجة ماسّة لقيادة جديدة ملتزمة بالوصول لاتفاقية سلام. لن يسمح نتنياهو بقيام دولة فلسطينيّة تحت سمعه وبصره، وعبّاس عاجز عن تقديم التنازلات اللازمة التي يمكن أن تجعل السّلام أمرا ً ممكنا ً.
كان بإمكان المؤتمر أن يقدّم مساهمة أكبر للعملية السلميّة ليس بمجرّد تكرار ما هو معروف، بل بتعزيز حوار ٍ جديد يسمح للشعب على أن يصبح مشاركا ً فعّالا ً، الأمر الذي لا بدّ منه لتغيير ديناميّة الصّراع.
(جي بي سي 26/1/2017)