منولوج امرأة مقهورة جداً
يبدو القهر، على درجاته المتفاوتة، كأرض خلاء لا حدود لها، مملوكة للبشر على وجه الشيوع؛ لكل امرئ فيها حصة تختلف باختلاف المكان والزمان، ناهيك عن تباين "الجندر" والعرق والمسؤولية والفقر، وغير ذلك من معطيات. إذ يكبر نصيب هذا من هذه "الثروة" المشتركة أو يقلّ، تبعاً لجملة طويلة من المتغيرات، بعضها القليل من صنع اليد، وبعضها الأكثر من تصاريف القدر والتحولات التي لا سيطرة على أعنّتها من جانب الأفراد والدول والجماعات.
ومع أن الشراكة في القهر ضاربة في الوعي العام، وغير متساوية بين الناس على مدى الأجيال، ناهيك عن أنها تتغير بالزيادة أو النقصان من آن إلى آن، وقد تتبدل من حال إلى حال، إلا أن حصة النساء من هذا الشعور الممض ظلت هي الأرجح وزناً، والأشد غوراً، والأوسع نطاقاً على مدى التاريخ الاجتماعي المكتوب، سواء كان ذلك لدى الأمم الأقل تطوراً، حضارياً وثقافياً، أو لدى الشعوب المتقدمة على كل صعيد، بما في ذلك صعيد المساواة والمواطنة وحقوق الإنسان.
خطرت لي هذه الخاطرة العابرة، وأنا أشاهد هيلاري كلينتون في حفل تنصيب الرئيس الأميركي دونالد ترامب؛ إذ بدت لي المرشحة الخاسرة وقد كبرت في السن أكثر بكثير مما كانت عليه صورتها المفعمة بالحيوية والإشراق إبان حملة الانتخابات. كما بدا لي حضورها الخافت في حفل فوز غريمها، فيه قدر من المشقة الكثيرة على النفس، والتعذيب البطيء للذات، الأمر الذي أثقل على السيدة الفائزة بالأصوات الشعبية، وزاد من حسها الثقيل بالقهر والظلم والمعاناة.
كان من المشوّق أن نعرف ذلك الحوار المنزلي المغلق الذي دار بين هيلاري وبين زوجها بيل كلينتون، غداة تلقيها الدعوة البروتوكولية لحضور حفل تنصيب ترامب، وأن نقف على ما إذا كانت هيلاري مانعت أول الأمر، ثم قبلت الدعوة على مضض، اتساقاً مع التقاليد، أو خشية من أن يشكل غيابها عن الحفل مادة للوم والتشهير، ولا سيما إذا كان بيل سيذهب بمفرده على غير ما تقضي به الأعراف الأميركية، ويترك وراءه الزوجة تتابع الوقائع من على شاشة التلفاز.
وإلى أن تنشر هيلاري، أو بيل كلينتون، مذكراتهما في وقت ما، وتأتي هذه المذكرات على هذه الواقعة بعينها، فإن للمرء تخيل حوار قصير ومتوتر جرى بين الزوجين عشية يوم حفل التنصيب، رغبت فيه هيلاري أن تغيب عن الحضور الذي من شأنه أن يزيد من مشاعر الظلم ويفاقم القهر لديها، وبين بيل الذي لا يستطيع الاعتذار، ولا الفكاك من المشاركة في تلك المناسبة الاحتفالية، أسوة بالرؤساء الأميركيين الباقين على قيد الحياة.
على أي حال، فقد كانت المشاهد التي التقطتها العدسات للمرشحة التي كانت قاب قوسين أو أدنى من لحظة الفوز في الانتخابات، مشاهد كافية، على قلّتها، لإظهار غيضٍ من فيض تلك المشاعر الداخلية التي استبدت بالسيدة الأولى السابقة خلال مأدبة الغداء، وهي ترقب الوجوه، تمشي على مهل، وتصطنع السكينة والهدوء، وتداري حسها بالمرارة والدهشة والاستغراب، خصوصاً عندما ألقى ترامب خطاباً غير تصالحي، بدا فيه الرئيس الفائز وكأنه ما يزال بعد في حمأة الانتخابات.
وفيما أظهرت بعض اللقطات صوراً للرئيس الأسبق وهو يطيل النظر متفرساً نساء ترامب الشقراوات، كانت زوجته التي صبرت صبراً جميلاً عليه أثناء فضيحة مونيكا لوينسكي الشهيرة، تداري الامتعاض، وتكبح نفسها عن الاشتعال غضباً، الأمر الذي فاقم شعورها بالقهر المعتق، وضاعف من حسها بالظلم والاضطهاد اللذين لم تخفف من حدتهما إلا تلك التظاهرة النسائية الكبرى المصاحبة لحفل التنصيب.
وإذا كان الوجه مرآة للنفس وما يختلج فيها من لواعج، وكانت العين سراج الروح حقاً، فإن وجه هيلاري كلينتون ونظراتها الزائغة في حفل فوز غريمها، أو قل حفل تخليد انكسارها، كان بمثابة صورة بانورامية ناطقة بمشاعر القهر المحتبس في أعطاف أول امرأة اميركية تجرؤ على خوض غمار انتخابات الرئاسة التي كانت سائر التوقعات واستطلاعات الرأي تؤكد، حتى اللحظات الأخيرة، فوز هيلاري الساحق فيها على مرشح لا يمتلك من المؤهلات غير الثروة الطائلة وطول اللسان.
الغد 2017-01-27