سورية ليست عربية.
جي بي سي نيوز:- الفرق بين زيارتنا سورية وزيارة تركيا مثلاً، هو أن سورية دولة عربية وتركيا ليست كذلك. إن أي عربي يتجول في أسواق سورية، ويتحدث مع أصحاب حوانيتها وناسها، يشعر وكأنه يتحرك في حارة من بلده نفسه. إنه ليس مضطراً إلى عصر دماغه ليبحث عن مفردات أجنبية لطلب فنجان قهوة، ولا هو مضطر إلى اصطحاب قاموس جيب يساعده في إملاء عنوان على سائق سيارة الأجرة. وحسب خبرتي الصغيرة في زيارة بعض البلدان العربية، أتصور أن العربي في كل مكان عربي لا بد أن يغمره إحساس بأنه في بيته وبأن الفروقات صغيرة لا تكاد تُلحظ، من موريتانيا إلى عُمان.
بالنسبة لنا نحن في بلاد الشام الأقرب إلى سورية، شغلت سورية دائماً مساحة كبيرة من وعينا بالهوية، وعززت شعورنا بوجود ظهير في الأشقاء السوريين، الذين يصرّون في كل مناسبة على أن بلدهم بيت لكل العرب. وفي الحقيقة، ليسوا بحاجة إلى قول ذلك، لأنك تشعر بالقرب والقرابة الوثيقة عندما تزور بلدهم. وسوف تزور الجامع الأموي، فترى تاريخك رأي العيان ولا يخالطك أي شك بأن المكان لك أنتَ ويخصك. وسوف تشاهد المعالم وعلامات التقدم، فيتملكك الزهو، وربما تقول: ها نحن العرب نمزج التاريخ بالتحضر.
غير معقول أن تُنزع عن سورية صفتها العربية الوجودية، حسب ما يقترح الدستور الجديد المُسرب الذي وضعه الروس، والذي ينص على إزالة العبارات التي تشير إلى عربية سورية، بتحويل اسمها إلى "الجمهورية السورية" بدلاً من "الجمهورية العربية السورية". ويوحي هذا الاقتراح بأن عروبة سورية هي التي كانت السبب في الأزمة السورية، أو أنها في الأساس بلد متعدد الأعراق جداً، والعرب فيه ليسوا أغلبية واضحة بحيث لا يجوز أن تكون الهوية العربية ظاهرة فيها. ولا يقترب أيٌّ من هذين الاقتراحين مجرد اقتراب من الواقع أو المنطق.لا يمكن أن تكون الهوية القومية مشكلة، وإنما يمكن أن تكون في مشكلة. وعندما بدأت الأزمة السورية، فإن السوريين العاديين كانوا يعرضون المطالب العملية المتعلقة بالحرية والمساواة والخبز. ولا نتذكر أن أحد مطالب السوريين كان التخلص من صفة العروبة باعتبار هذه الصفة هي التي تنغص حياتهم وتفقرهم وتعرضهم للقمع. وقد ظهر البُعد العرقي في الطريق فقط بعد ذهاب الأحداث في سورية إلى وجهات غير محسوبة أدت إلى تضييق الهويات إلى أصغر الوحدات، وأهمها الطائفة وليس العرق، وهو السبب في تدمير سورية وتعميق أسباب الصراع بين أبناء شعبها وتهديد وحدتها الضرورية لأهلها أنفسهم.
مع ذلك، تؤكد موسكو على أنها "أعدت المشروع، انطلاقًا من نتائج مشاوراتها مع أطراف النزاع السوري ودول المنطقة". ونتساءل: هل توافق أطراف النزاع السوري ودول المنطقة على نزع سورية من سياقها التاريخي ونزع جلدها وجعلها بلا هوية؟ هل تريد دول المنطقة حقاً التخلص من سورية وفصلها عن الجسم العربي؟ وهل أغلبية السوريين يشعرون فعلاً بأن العروبة صفة مفروضة عليهم وتخرب بيوتهم، وأن شطب إحالات العروبة ستحررهم وتعيدهم إلى هوية مصادرة ما؟ هل يريد أحد إضفاء طابع التعدد الثقافي على سورية لأنها بلد ثقافات كثيرة مختلفة، لا يمكن تمييز الثقافة العربية فيها كطبع غالب يمكن تمييزه؟ وماذا ستكون هوية سورية إذن؟ ماذا تُسمى لغتها وتاريخها وعاداتها وتقاليدها؟
ثمة اتجاه هازم للذات وعبثي بالمطلق، والذي يحيل أزمة العرب إلى كونهم عرباً. وهذه في أصلها نظرية عنصرية ماسوشية، تفترض أن العِرق يحدد القدرات والشخصية والإنجاز. وفي الحقيقة، لا يمكن أن يكون هناك مرض أسوأ من شك المرء بقوميته، التي هي هو، لأن الهوية القومية مُعطى -بما هو العالم عليه- وليست اختياراً. العالَم كله قوميات، وليس العرب هم مبتكرو فكرة القومية. ولعل أسوأ ما تعرض له العرب تاريخياً هو التضييق المتواصل للانتماء الجامع إلى هويات ووحدات فرعية دائمة التفتت، على نحو ضيع الهدف وأهدر الطاقات وخلق الصراعات بدلاً من التركيز على المشتركات والتعان للمنافسة في عالم شرس.
على الأغلب، سيكون نزع ألفاظ العروبة عن سورية، وصفة لتعميق أزمة البلد وتفكيكه وإرباك النفسية السورية. وهو ضربة أخرى لمشروع تجميع المنطقة المتعثر، وإساءة بالغة لكل المنتمين إلى هذه الثقافة والمنطقة.
الغد 2017-01-29