الملك بين رحلتين ومرحلتين..
في أيار من العام 1999 قام الملك عبدالله الثاني بزيارته الرسمية الأولى الى واشنطن ، وكانت اقرب الى رحلة استكشافية ، حمل جلالته في هذه الرحلة الى البيت الأبيض رؤيته الأصلاحية وهموم الأردن وقضايا المنطقة ، وطرحها للبحث والنقاش مع الرئيس كلينتون بمفهوم خاص ونهج جديد ، وللحقيقة أقول أن زيارته حازت على اهتمام متميز.
تلك الرحلة كانت بداية مرحلة مختلفة غاب فيها القطب الثاني ( الأتحاد السوفياتي ) ، ولم تكن روسيا الحاضرة قد استعادت عافيتها ودورها ، كما كانت القضايا المهمة تتمحور حول الأصلاحات الساسية والأقتصادية والأجتماعية والأدراية ، وكانت قضية فلسطين هي القضية المركزية العربية ، اضافة الى مسألة الحصار على العراق.
واليوم ، بعد 18 عاما كاملة ، يقوم الملك عبدالله الثاني بزيارته الأولى الى واشنطن في بداية عهد الرئيس الجديد دونالد ترامب ، وهي بلا شك رحلة مختلفة صعبة شاقة ، تمثل مرحلة جديدة زاخرة بالقضايا والمسائل الساخنة ، نقف فيها على عتبة نظام عالمي قيد التكوين ، وهوعالم يطفح بالتحديات ، تتغير فيه التحالفات والمصالح بسرعة غير مسبوقة.
بهذه المناسبة يجب أن نعترف ان الرئيس ترامب فاز نتيجة معركة سياسية شرسة غير مألوفة ، كما أنه هو رئيس غير عادي ، دخل الى البيت الأبيض بما يشبه الأنقلاب الديمقراطي ألأبيض ، واراد من اللحظة الأفتتاحية لعهده ان يثبت يمينيته المحافظة عبر المبالغة في اعطاء الطقوس الدينية في حفل التنصيب مساحة واسعة لافتة للأنظار.
والخطوة التالية كانت سلسلة القرارات التنفيذية التي وقعها الرئيس ترامب باسلوب استعراضي مسرحي ، ومن هذه القرارات ما يتعلق بمسائل جدلية اثارت وسائل الأعلام التي تقود ألآن حملة شرسة واسعة ضد نهجه ، لدرجة اتهامه بالعنصرية ، كما أثارت غضب الشارع الأميركي المنقسم حول قرار بناء الجدار على الحدود مع المكسيك ، وقرار حظر دخول رعايا الدول العربية والأسلامية السبع الى الأراضي الأميركية ، وهو القرار الذي يعزز موقف التنظيمات السياسية المسلحة المتطرفة ويصب في مصلحة خطابها الديني التحريضي المتطرف.
بعض الأميركيين ، كما بعض المراقبين من غير الأميركيين ، يرون أن سياسة بناء الجدران بدل مد الجسور مع الدول والشعوب الأخرى ، أضافة الى الخلافات مع دول الأتحاد ألأوروبي ، تقود الولايات المتحدة الى الأنكفاء والعزلة وتضر بمصالحها الحيوية ، أو نذهب أبعد لنقول أنها خطوة على طريق صراع الحضارات ، بعد فشل نظرية.
الحقيقة أن الرئيس الأميركي الجديد ينفذ ، حتى ألآن ، كل ما وعد به في حملته الأنتخابية ، ونحن بانتظار القرار الصعب الذي يشكل تحديا لكل العرب والمسلمين وهو نقل السفارة الأميركية الى القدس المحتلة ، اضافة الى موقف الأدارة الجديدة من حل الدولتين ، الدور الأميركي في الحل السياسي للمسألة السورية بالتعاون مع روسيا.
هذه بعض ملامح المشهد الراهن ، ولكن سيكتشف الرئيس ترامب ، عاجلا أم آجلا ، انه يعيش في عالم متغير ، وأن الولايات المتحدة التي وعد باعادتها الى عظمتها المتخيلة ، لم تعد قادرة على قيادة العالم وحدها ، كما لم تعد قادرة على كتابة تاريخ ما بعد « نهاية التاريخ « حسب نظرية فوكوياما في بداية التسعينات ، لأن النظام العالمي الجديد قيد التكوين هو عالم متعدد الأقطاب ، والمطلوب أن من الولايات المتحدة أن تقوم بدور ايجابي لمنع نشوب الحرب الباردة الجديدة ، أو بعث سباق التسلح على حساب تنمية الدول ورفاهية الشعوب.
واذا كان الرئيس ترامب ما زال في بداية عهده ، حديث التجربة في العمل السياسي ، لا بد أن يصل الى قناعة بأن حسابات ترامب المرشح تختلف عن حسابات ترامب الرئيس ، وأن هناك اختلافات بين الأرادة والعقل ، وبين الواقع والمتخيل.
أما بالنسبة لزيارة الملك عبدالله لواشنطن ، والتي سبقتها زيارته الى موسكو ، وجولاته الأوروبية السابقة ، في جهد متصل هدفه تحقيق مصالح الأردن العليا عبر توظيف واستثمار العلاقات الأردنية الوطيدة والمتميزة مع كل الدول العربية والشرقية والغربية. وجلالته يدرك أن زيارته لواشنطن هذه المرة مختلفة من حيث المرحلة بشكلها ومضمونها وتحدياتها وقضاياها ، وهو ادرى بحقائقها وتفاصيلها بعد هذا المخزون من الجهد المتواصل ، والمسيرة التى بلغت 18 عاما كاملة من الزمن ، الغنية بالخبرة التراكمية ، والمتميزة بالحنكة السياسية والعقلانية والحكمة ، والتي مكنت الأردن من اجتياز مراحل تاريخية مزدحمة بالتحديات الصعبة الشائكة.. وكان الله بالعون .
الراي 2017-02-02