الإصلاح المهدور على يد "الإصلاحيين"
تتحول الأفكار والاتجاهات النبيلة إلى فساد وفشل إذا انفصلت عن الرؤية المنشئة لها، أو تخلفت عن تطور الأفكار ومآلاتها. لكن أسوأ ما يصيبها هو عندما تتحول (الأفكار والمؤسسات الإصلاحية) إلى مصالح فردية احتكارية، أو حين تمنح أصحابها شعورا بصواب الذات وخطأ الآخر. فأن تكون هناك فكرة نبيلة أو ضرورية منشئة لعمل واتجاه لا تكفي لأن يظل هذا العمل إصلاحيا. فقد تفقد الفكرة المنشئة أهميتها أو يظهر خطلها، أو تعجز حتى وهي صواب عن الإصلاح، وقد تتغير البيئة والموارد التي نشأت فيها.
نشأت القوميات والهويات المرتبطة بها في منتصف القرن التاسع عشر استجابة للتطور العلمي والثقافي المصاحب للثورة الصناعية، ثم الإدراك الجمعي بالاستقلال عن الإمبراطوريات الكبرى أو حتى إلغائها. وبالفعل، فقد اختفت الإمبراطوريات مع نهاية الحرب العالمية الأولى، لكن تحولت القومية نفسها إلى عبء على أصحابها، وأنشأت صراعات جديدة مدمرة، وصار الدرس الأوروبي والياباني بعد الحرب العالمية الثانية هو كيف نضمن ألا تتكرر مرة أخرى القوميات وما تنشئه من كراهية وتدمير للآخر والذات أيضا.
يمكن الملاحظة والتقدير في تاريخ الأفكار وتطورها وتحولاتها، أنها تتقدم باتجاه مزيد من الازدهار والتحسين في المعرفة والحياة عندما تكون مرتبطة بهدف عملي واضح؛ بينما تمعن في الخراب والإضرار عندما ترتبط بأهداف ووعود مثالية غير واقعية، أو لا تحتملها الفكرة المنشئة، حتى لو كانت هذه الوعود نبيلة. وعلى سبيل المثال، نشأت أعمال السحر والشعوذة في علم الكيمياء ودراسة الطبيعة، لكن وعود الحصول على الذهب والثراء بمعالجة وفهم خواص المادة المتاحة جعلها تؤول في مرحلة من اليأس إلى الغيب والطلاسم. كما بدأت قراءة الأبراج في علم الفلك والحياة والنفس، لكن أحلام توظيف العلم في معرفة الغيب والمستقبل جعلتها تنفصل عن العلم لتمضي إلى الغموض والدجل. وفي المقابل، فإن الطب بدأ استعانته بالغيب والطقوس والرموز لأجل الشفاء من المرض، وقد جعلها هذا الهدف الواقعي النبيل تتغير بسرعة إلى علوم ومهارات وصناعات متقدمة.
وربما يمكن أيضا تطبيق القاعدة وملاحظتها في الأفكار والتجارب السياسية والاجتماعية، كما يمكن أيضا الاستعانة بها في تحليل الوقائع واستشراف المستقبل وتقديره، فالأفكار والاتجاهات تمنح مؤشرا يستدل به على نبلها وصلاحيتها للعمل السليم المنتج، أو العكس؛ في مدى قدرتها على تصور مشكلات محددة وأفكار عملية واضحة تبين الفرق بين الواقع القائم والهدف الممكن والواجب تحقيقه.
المصالح النخبوية والأوهام المجتمعية قادرتان على الدوام على بناء تحالف ناجح في مواجهة القسوة والملل في مقولات التنمية والحريات. فالمجتمعات تفضل أن تعفي نفسها من المسؤولية والشراكة معولة على وعود كبرى بلا حدود، لا يتردد في إطلاقها القادة السياسيون والدينيون. وللسبب نفسه تستقطب أعمال القمار واليانصيب ومشروعات اقتصادية وهمية في الأسهم والبورصات أو مشروعات على الورق وفي الـ"فوتوشوب" أموال الناس ومدخراتهم، مقابل إعراض عن مشروعات حقيقية تحسّن حياتهم ومواردهم. فوعود الربح الكبير والسريع يكفيها باحتمال النجاح بنسبة ضئيلة جدا، كي تتفوق على وعود واقعية مصحوبة بالعمل والجهد والانتظار
الغد 2017-02-08