«المناطق الآمنة التوافقية» من جديد
لم يعد الحديث عن “المناطق الآمنة” في سوريا اليوم، كما كان عليه قبل ثلاث أو أربع سنوات ... المفهوم من حيث أهدافه ودلالاته وآليات تجسيده وأولوياته والأطراف المتحمسة، تغير تغييراً جذرياً خلال السنوات الثلاث أو الأربع الفائتة ... من قبل، دار الحديث عن “مناطق آمنة” مفروضة على النظام وحلفائه بالقوة الجبرية على الأرض، ومناطق حظر الطيران في السماء، هدف المناطق/ الملاذات الآمنة، تمثل في تأمين مناطق “محررة” من النظام، تشكل قاعدة تجميع وانطلاق للمعارضات المسلحة، للانقضاض على قوات النظام في مناطق انتشارها وسيطرتها ... الهدف من طرح المشروع، كان التسريع في إسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، باعتباره الأولوية الأولى لجماعة “أصدقاء سوريا” ... أما الأطراف المتحمسة له فكانت المعارضات على تنوعها، ورعاتها الإقليميين عرباً وأتراك، فضلاً عن فرنسا وبريطانيا وبعض أوساط إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما.
اليوم، تبدو الصورة مغايرة تماماً ... المناطق الامنة التي يجري التداول بشأنها، من طبيعة “توافقية”، وليست مفروضة بالقوة العسكرية ... روسيا ضامنة أساسية لهذه المناطق، واستتباعاً، فإن الموافقة السورية – الإيرانية، تأتي من باب تحصيل الحاصل ... هدف هذه المناطق، توفير ملاذات للمدنيين السوريين، بالذات في مناطق سيطرة داعش وغيره من الجماعات الإرهابية، حتى لا يضطرون للتوجه صوب تركيا أو الأردن أو لبنان ... يمكن إدراجها في باب “إجراءات بناء الثقة” بين النظام والقوات الحليفة والرديفة له من جهة، والمعارضات المسلحة وجيوش العشائر من جهة ثانية.
أولوياتها، خلق ظروف مواتية للتعاون وتوحيد في الحرب على داعش وغيره من الفصائل الإرهابية، باعتبارها الأولوية الأولى في سوريا، وليس إسقاط النظام كما كان الحال من قبل... الأتراك يريدونها كذلك، مناطق فاصلة بين كانتونات “روج آفا” أو كردستان الشرقية لمواجهة “الكيانية الكردية الناشئة” ... الأطراف المتحمسة لها: إدارة الرئيس ترامب، الأردن وتركيا، النظام وحلفائه طالما هي توافقية، ومن الغريب أن المعارضات المختلفة، لم تخف الحماسة السابقة ذاتها، بل أظهرت تحفظاً على المفهوم الجديد للمناطق الآمنة، رعاة هذه المعارضة من الدول العربية يلوذون بالصمت... أما أوروبا المهجوسة بخطر الإرهاب واللاجئين، فهي مع أي حل وأية أولوية، ترفع عنها هذا التهديد.
الأردن، المسكون بدوره بهاجس “الجبهة الجنوبية”، التقط وإن متأخراً، اتجاهات الريح الدولية، بعد التدخل الروسي في سوريا، وبالأخص مع مجيء دونالد ترامب، فقام ويقوم بدور مبادر من أجل إحداث التناغم والانسجام بين هذه الأفكار المتطايرة بين واشنطن وموسكو من جهة، وأعمق مصالحه الوطنية على الحدود الشمالية من جهة ثانية ... شجع على إلحاق “الجبهة الجنوبية” بمسار “أستانا”، وحضر اجتماعها الأخير بصفة مراقب، استجابة لدعوة وطلب روسيين، وتعويضاً عن غياب العرب عن هذا المسار ... تحادث الملك مع بوتين حول الموضوع في موسكو وتحادث بشأنه مع أركان الإدارة الأمريكية الجديدة.
لا حل للازمة السورية من دون روسيا، هكذا تحدث الملك، علناً وخلف الأبواب المغلقة ... والتقارب الروسي الأمريكي، يمكن أن يشكل أول بارقة أمل جدية لحل سياسي لهذه الأزمة، هكذا يؤكد منذ أمد ليس بالقصير ... كل هذا صحيح، ويوفر للأردن هامشاً واسعاً للتحرك والمناورة لضمان مصالحه على هذه الجبهة، وأهم مصلحة أردنية هناك، هي دفن الإرهاب في سوريا، ومنع تسلله إلى الأردن.
مناطق أمنة توافقية في جنوب سوريا، ستؤسس لإجراءات بناء ثقة بين الجيش السوري وفصائل المعارضة “المعتدلة” جنوباً ومسلحي العشائر شرق السويداء ... وهذا بدوره سيوفر فرصة لحشد ما يكفي من قوى للتصدي لداعش، ومنع تسللها جنوباً من الرقة وشرق الموصل وتلعفر وتدمر، فضلاً عن كونها آلية مجربة لضمان فصل المعارضة عن النصرة (الغارقة في تجربة العشق الحرام مع إسرائيل) في القنيطرة ودرعا، وعزل الجيب الداعشي، المتمثل بفصيل “خالد بن الوليد” القريب من حدودنا الشمالية.
منطقة آمنة توافقية جنوب سوريا، من شأنها أن توفر ملاذاً لمدنيي مخيم “الركبان” و”حدلات” اللذان يأويان أسر الدواعش عموماً، وتحولاً إلى “منتجع” يتلقى فيها “مجاهدو التنظيم الإرهابي” استراحاتهم بين معركتين ... فضلاً عن كونها مناطق مؤهلة لاحتواء أية موجات نزوج جديدة قد تتأتى عن اندلاع المعارك ضد داعش والنصرة ... والأهم، أنها قد تستقبل جزءاً من “فائض اللاجئين” في الأردن.
مناطق آمنة توافقيه، قد تسرع في فتح الحدود الأردنية – السورية، ورفع الحصار “الواقعي” المضروب على الأردن، وستفتح طرق التجارة والتنقل مع دمشق والسواحل السورية وبيروت، وما هو أبعد منها: أوروبا ... فتكون بذلك مساهمة فعلية في تخفيف حالة الاختناق الاقتصادي التي يعيشها الأردن في هذه الأيام الصعبة.
الطريق للمناطق الآمنة التوافقية، ليس معبداً بالحرير، بيد أن العقبات التي ما زالت مبثوثة عليه، من النوع القابل للتذليل، وفي ظني أن “حلحلة” هذه العقبات، باتت مسالة أشهر وأسابيع، ليس أكثر، وعندها سنكون أمام مؤشر نوعي على ولوج الأزمة السورية عتبات الحل السياسي النهائي.
منذ عامين أو يزيد قليلاً، وفي هذه الزاوية بالذات، دعونا الدولة الأردنية للتفكير بمشروع “المناطق الآمنة التوافقية”، وكتبنا تحت هذا العنوان بالذات، سلسلة من المقالات، وليس مقالاً واحداً، وتحديداً بعد التدخل الروسي في سوريا، الذي نظرنا إليه بوصفه رافعة وضمانة لإنجاز هذه المشروع، ووسيطاً وراعياً لمختلف مراحل تنفيذه، وتحدثنا بشأنه مع عشرات الديبلوماسيين الروس والغربيين... للأسف لم يطلب أي مسؤول أردني أي إيضاح أو تعليق منّا ... حسناً، أن تصل متأخراً خيرٌ من ألا تصل.
الدستور 2017-02-09