ليس مجرد كلام لأنه موجه إلى الجامعات
الشكوى دائمة من عدم تلبية التخصصات الجامعية لمتطلبات العمل المتغير، ومن تنافس الجامعات لطرح تخصصات جديدة، سواء كانت لازمة أم غير لازمة.
والحقيقة أنه لا أحد في العالم، وبخاصة في هذا العصر التكنولوجي المتغير والسريع التغيير، يستطيع أن يضع قائمة بالتخصصات الجامعية أو نصف الجامعية اللازمة للمجتمع، كماً ونوعاً، في السنة المقبلة أو في السنوات الخمس المقبلة. وحتى في الاتحاد السوفياتي؛ المخطط الأكبر في التاريخ، وفي "أيام اللولو" أو الاقتصاد الاشتراكي المهَيمن عليه، لم يستطع أن يوائم بين مخرجات التعليم ومتطلبات أو مدخلات الاقتصاد من القوى العاملة، فكانت لديه فوائض من الخريجين في تخصصات ونواقص في أخرى.
لذلك، عمدت بعض الدول، مثل فرنسا، إلى نصح الطلبة وإرشادهم إلى التخصصات المطلوبة اللازمة للمهن الجائع لها المجتمع. لكن أميركا كانت أذكى أو أفضل في الإرشاد التعليمي والمهني والحرفي، فهي -نتيجة إحصاء كل شيء أو تسجيله- تصدر سنوياً مجلداً ضخماً بجميع المهن والأعمال والحرف في الدولة، مبينة فيه المتطلبات التعليمية لكل منها، وعدد العاملين فيها وعوائدهم منها؛ وفيما إذا كانت نامية وصاعدة، أو متقهقرة ومتلاشية، تاركة لكل طالب/ة اتخاذ القرار المناسب، ومرشدة الجامعات نحو الاتجاه أو التخصص المطلوب.
لكننا في الأردن لا ندري بعد، أو لا نعلم بعد شيئاً عن مثل ذلك؛ فالطلبة وذووهم يركضون وراء التخصص حسب السمعة، أو انقياداً أو اتباعاً لشخصيات تصر على إلحاق أبنائها وبناتها في تخصصات معينة كالطب والهندسة، أو استرشاداً بأسس القبول التي تستحوذ على هذين التخصصين، مما يجعلهم لا يصدقون الإعلام والنقابات ورجال الأعمال عندما يتحدثون عن كثرة العاطلين عن العمل من خريجيهما.
لعل أسس القبول الجامعي الرسمية في الأردن هي المعطل الأول للإبداع والابتكار في الجامعات وخارجها، لأنها لا تسمح للطلبة باختيار التخصصات التي يرغبون فيها. إنها تفرض عليهم البواقي من التخصصات التي يضطرون لذكرها استجابة لنموذج الطلب، وبدوره يظل الطالب الضحية أو المنافس متبرماً طيلة دراسته الجامعية وربما طيلة حياته بهذا الترتيب الظالم، وربما متمرداً، ومن ثم فلا دعوة عنده أو نداء من داخله للإبداع والابتكار.
ومما يزيد الطين بلة وجود تخصصات بلا قيمة وظيفية لها على الإطلاق في مرحلة البكالوريوس. ومن ذلك تخصص الإدارة العامة، والبزنس، والتسويق... لأنه ليس لكل منها قاعدة علمية أو شخصية مهنية معلومة، ومع هذا يضطر الطلبة للالتحاق بها ليحصلوا على الدرجة الجامعية، فيقعون في الفخ. ويذكر محدث لي: "عندما كنت مديراً عاماً لشركتين تعملان في المختبرات المدرسية والجامعية والأجهزة الطبية والأدوية وغير ذلك، كان يدق بابنا خريجون يبحثون عن وظيفة بمثل هذه التخصصات كنت أقول للواحد منهم: ماذا يمكن أن تعمل هنا؟ هل تستطيع تسويق هذه المواد والأجهزة العلمية أو التكنولوجية وأنت لا تملك قاعدة علمية؟ هل تستطيع أن تعمل محاسباً؟ وهكذا. لكن عندما كان يأتي خريج مختص في الفيزياء، أو الكيمياء، أو الأحياء، أو الرياضيات... كنت تجد له مكاناً في العمل لأنه بقليل من التهيئة والتدريب في مكان العمل يصلح للعمل في الإدارة أو الصيانة أو المحاسبة أو التسويق".
وعليه، فإنني أقدم نصيحة مخلصة للجامعات -فقديماً قالوا "اسأل مجرب ولا تسأل طبيب"- أن لا تطرح مثل هذه التخصصات في مرحلة البكالوريوس. يمكن أو يلزم طرحها بعد البكالوريوس. وأرجو أن لا يستشهد أحد بما يجري في الجامعات الأميركية، لأن الاقتصاد هناك ضخم وقادر على استيعاب خريجيها الذين يعانون كثيراً في فترة البحث عن عمل.
الغد 2017-03-03