الثرثرة في جنيف، والحسم في تدمر ومنبج
لولا الإطلالات التلفزيونية لرؤساء الوفود المشاركة في “جنيف 4”، وما تطلقه عادة من “طوفان” اتهامات واتهامات متبادلة، لما التفت أحدٌ إلى مارثون الاجتماعات البطيئة والمملة التي تلتئم في “الوقت الضائع”، وتندرج في سياق “لعبة الإشغال”، وبصورة حدت بكثير من المراقبين إلى عقد المقارنات بين الحوارات السورية – السورية والمفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، التي كلما تكاثرت، كلما قل حصادها وتبددت قيمتها.
التطورات الفعلية في الأزمة السورية، تتجسد في الميدان، وعلى أكثر من محور ... هناك ترتسم معالم الحل وتتظهّر موازين القوى، وتتجلى نتائج التحالفات المتحركة والاستدارات المتتالية ... الجيش السوري يبسط سيطرته – بسهولة نسبية – على كامل مدينة تدمر الاستراتيجية في عمق البادية، ويواصل تحصين وتوسيع مكتسباته هناك ... وفي الشمال، تتلقى أنقرة الصفعات المتتالية ... أمس تحدثنا عن صفعتين: الأولى، نجاح الجيش السوري في الالتحام بقوات سوريا الديمقراطية (قسد) قاطعاً طريق الجيش التركي من الباب إلى الرقة ... والثانية، كشف وحدات الحماية التركية عن وجود جنود وضباط أمريكيين في مناطقهم، ما يشكل حصانة لهذه القوات في وجه تهديدات الإبادة والاجتياح التي تطلقها أنقرة ... اليوم، تلقت أنقرة صفعة ثالثة عندما كشف “المجلس العسكري لمنبج” عن اتفاق مع الحكومة السورية، برعاية “مركز حميميم” الروسي بتسليم “قرى وبلدات الغلاف” في منبج وجوارها للحرس الوطني السوري الأمر الذي سيجعل مهمة أنقرة في هذه المنطقة أشد صعوبة، ويعطي الجيش السوري، فرصة الوصول إلى مناطق لم يدخلها منذ بداية الأزمة، من دون قتال، وربما يضع بعض وحداته، على مقربة من الحدود التركية – السورية، ولأول مرة كذلك.
هذه الصفعات المتتالية، دفعت الرئيس التركي للعودة إلى ممارسة لعبة “الرقص على الحبال” التي يتقنها تمام الإتقان، فما أن لاحت في الأفق بوادر “تلكؤ” أمريكي في الاستجابة للمقترحات والخطط العسكرية التركية لمعركة الرقة، والتي استثنت جميعها دوراً كردياً نشطاً، بل وافترضت جميعها، اجتاحات تركية لمناطق كردية، عمد الرجل إلى التلويح بورقة التعاون مع موسكو في معركة استرداد الرقة، ظناً منه أن مثل هذه التهديدات، ستشعل الأضواء الحمراء في البيت الأبيض والبنتاغون، وستُسيل لعاب الكرملين على دور متزايد للصديق التركي المتقلب، لكن يبدو أن ألاعيب السيد أردوغان فقدت سحرها وتأثيرها على الأصدقاء والخصوم على حد سواء، لفرط تهافتها وانكشاف مراميها.
من بعيد، تدخل الولايات المتحدة على خط الأزمة السورية، ولكن من بوابة “محاربة الإرهاب” هذه المرة، وهي البوابة التي يفضلها دونالد ترامب، حين استهدفت مواقع وأهداف وقيادات لجبهة النصرة، ما يؤكد الانطباع بأن الولايات المتحدة في ظل الإدارة الجديدة، ستبدي التزاماً أعلى، وفاعلية أنشط، في الحرب على الإرهاب، سيما وأن الضربات ضد النصرة في إدلب السورية تزامنت مع ضربات وإنزالات ضد القاعدة في إبين اليمنية، وهذا تطور يروق لدمشق وحلفائها عموماً، الذين يراقبون باهتمام صمت واشنطن عن إثارة موضوع “الأسد” وعدم اشتراط “التلازم” بين مساري الحرب على الإرهاب والانتقال السياسي في سوريا.
أياً يكن من أمر، وبالعودة إلى “جنيف 4”، يبدو أن المعارضة وبقبول من روسيا نجحت في إدراج “الانتقال السياسي” إلى سلال المؤتمر الأربع، يقابله نجاح لوفد النظام في إدراج “الحرب على الإرهاب” إلى هذه السلال ... لكن مسار جنيف بات معلقاً كما لم يحدث من قبل، على مسار أستانا، هناك تلتقي القوى والجماعات الفاعلة على الأرض، وهناك تتقرر الهدنة وخطوط التماس، وهناك تتلاشى الفرص لممثلي المعارضات المفبركة التي ما كان لها أن تصل إلى جنيف لولا دعم رعاتها وداعميها، فمعظم هؤلاء الذي يصرون على احتكار تمثيل المعارضة، لا قيمة لهم بأنفسهم، بل بما يحظون به من تأييد وإسناد الرعاة والمشغلين.
لم يكن أحد ينتظر الكثير من “جنيف 4”، فالمؤتمر جاء في مرحلة انتقال بين إدارتين في واشنطن، وقبل أن تستكمل إدارة ترامب تشكيل طاقمها وترسم سياساتها واستراتيجياتها، وقبل أن تتضح الحدود والمديات التي ستصلها في البحث عن “حلفاء جدد” في الحرب على الإرهاب ... الجولات القادمة في مسار جنيف، هي التي ستظهّر كل هذه المعطيات، وعلى موائدها سترتسم ملامح “الحل النهائي” للأزمة السورية، وإلى أن يصبح أمرٌ كهذا ممكناً، فإن الكلمة الفصل ستظل للميدان.
الدستور 2017-03-04