ما وراء صعود الشعبوية؟
جاء صعود دونالد ترامب لسدة الرئاسة الأميركية مفاجئاً وصادماً للدوائر السياسية الأوروبية بشكل عام، ولمراكز الفكر والبحوث الأميركية والأوروبية بشكل خاص. كذلك، ينظر معظم هذه المراكز لهذا الفوز بقلق شديد لسببين رئيسين: أولهما، أن صعود ترامب قد يساهم في صعود التيارات السياسية الشعبوية القومية والانعزالية في أوروبا. وقد سبقته مؤشرات تمثلت ابتداء بانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وصعود الأحزاب اليمينية في أوروبا. وثانياً، أنه قد يعني بداية النهاية للحقبة السياسية الليبرالية التي ميزت الديمقراطية الغربية منذ الحرب العالمية الثانية.
ربما يكون التعبير الأدق من مصطلح الشعبوية هو صعود الأحزاب القومية اليمينية المحافظة. فقد يكون مصطلح الشعبوية مُضللاً إذا ما تم فهمه بأن السياسيين يتبعون سياسات ترضي عامة الناس لأغراض الوصول للسلطة، ولكن ما حدث هو تحولات جذرية في الاقتصاد والسياسة أدت الى تصاعد هذا الفكر اليميني حدّ التطرف أحياناً. ومن الخطأ اعتبار هذا تطوراً طال الدول الأوروبية وأميركا، بل هي ظاهرة عالمية لم نكن نحن بمنأى عنها.
السؤال المهم في هذا المجال: ما هي السياسات التي أدت إلى ظهور السياسة "الشعبوية" أو اليمينية المتطرفة والمحافظة؟ كمحاولة للفهم يمكن التركيز على أربعة عوامل عريضة قد تنبثق عنها تفاصيل كثيرة:
أولاً: فشل النظام الرأسمالي والعولمة في تحقيق نمو متوازن داخل الدولة الواحدة وبين الدول. إذ توثق الكتب والدراسات التي ظهرت في الأعوام الماضية، التفاوت الواسع في الداخل، وتراجع الدخل وفرص العمل، وبخاصة للطبقة الوسطى، إضافة إلى ارتفاع نسبة البطالة في أغلب دول العالم، وبلوغها مستويات غير مسبوقة في دول العالم الثالث. البعض كان يعتقد أن العولمة أداة بيد الدول المتقدمة لن تتأثر بها سلباً، لكن الواقع أن الدول المتقدمة بدأت تعاني، شأنها شأن غيرها من الدول، من الأزمات الاقتصادية؛ وهجرة رأس المال والشركات الكبرى بحثاً عن عمالة رخيصة وأسواق، مؤدية بذلك إلى تراجع فرص العمل والدخول بهذه الدول. وبالنسبة لدول العالم الثالث، أصبحت الفجوة بينها وبين الدول المتقدمة تزداد، ودخلت بأزمات اقتصادية ومالية تركت نسباً كبيرة من السكان يرزحون تحت خط الفقر أو من دون عمل. وتتفاقم هذه المشكلة إذا أخذنا بالاعتبار الفجوة التكنولوجية وعملية الأتمتة التي تتم على قدم وساق.
ثانياً: فقدان غالبية الدول السيادة على القرارات الاقتصادية والمالية، ما يترك هامشاً قليلاً لاتخاذ سياسات اقتصادية واجتماعية تسعى لتحقيق مصالح وحاجات فئات عريضة من الشعوب. لقد غدت الشركات والمؤسسات المالية والاقتصادية الكبرى، كالبنك الدولي، لا تترك سوى هامش بسيط للدول لاتخاذ قرارات مستقلة، ما فاقم من المشكلات التي تعاني منها تلك الدول.
ثالثاً: الهجرات العالمية والقسرية واللجوء كنتيجة رئيسة للعولمة؛ وتطور المواصلات؛ وتفاقم المشكلات والحروب. فهناك أكثر من 60 مليون لاجئ في العالم نتيجة للنزاعات المسلحة، وهناك عشرات الملايين من المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين الذين ينتقلون أو يحاولون الانتقال هروباً من الحروب والفقر والجوع. وهذا الحراك الديموغرافي بات يهدد التركيبة السكانية في العديد من الدول، فبرزت مشكلات الهوية والاندماج، والتطرف في بعض الدول المتقدمة وغيرها.
رابعاً: على المستوى السياسي، ظهر بشكل جليّ أن الحكومات لا تكترث بالناس وحياتهم وتطلعاتهم، وأن الديمقراطية لم تعد حقيقية. والدليل على ذلك هو التراجع المذهل في المشاركة السياسية والانتخابات، فأصبحت الديمقراطية محصورة بالنخب السياسية والاقتصادية التي تعاظم دورها، وبشكل مباشر، من خلال تدخلها وتأثيرها ومشاركتها بالانتخابات. إذاً تراجعت الديمقراطية الليبرالية التي يمثلها اليسار واليمين، وشاخت وأصبحت تلك المجتمعات بحاجة للتغيير.
الشعبوية والتطرف جاءا نتيجة لفشل السياسات المرتبطة بالاقتصاد والوظائف والاندماج الاجتماعي. فعلى المستوى العالمي، فشلت السياسات العالمية في حلّ النزاعات الدولية وفي مساعدة الدول في تخطي مشكلاتها. والشعبوية صعدت نتيجة لعدم الأمان الاقتصادي وتراجع الهويات القومية أو الوطنية. ودعم الشعبوية ليس بسبب تراجع الأحوال المعيشية الشخصية، بل بسب تراجع المجتمعات أو الشعور بانحدارها. والشعبوية بوصفها حركة سياسية لن تستطيع حل المشكلات التي تدّعي أنها تقوم بحلها، ولكنها قد تجبر الآخرين على تغيير سياساتهم لحلها.
الغد 2017-03-09