تسعة أطفال في رجل واحد
طالما رفع الساكنون كسل منتصف العقد الخامس يافطة تلوح في مهب قاطرات العمر ومطاراته: (الرجلُ في الخامسة والأربعين يفكر بالحب كثيراً ومليّاً، نفسهُ خضراءُ طريةٌ، ويدهُ شجرة ورد، وروحه يمامة، وصمته جواب).
وكم هامستني نفسي، كلما هفهفت كلماتهم في مفارق السنوات: لا تصدقهم يا رمزي. لا يخدعك بمجاز الكلمات هؤلاء المبجلون الوثيرون. هم يحيون بمدارات أخرى للحياة، ولم تتشابه البدايات بينكم ولا المآلات. من يتحدث عن الحب لا يحب. من يدعي طراوة النفس إلى اليباس آل أو سيؤول.
يا أنا. أنت تسعة أطفال معاً، كل طفل بخمس سنين عامرة الشغب والدهشة، متعبة السؤال، لا يرضيها جواب. أنت شابان عشرينيان دمجتهما روح العنفوان لقلبك الأحمر النامي. أنت شيخ تسعيني شطره الزمن صديقين متحاربين متحابين لدودين. أنت ومرآتك يا أناي.
في السهرة قالت عرافة المقهى، وقد غمز لها صديقٌ ستيني؛ كي تنال مني: الرجل في منتصف عقده الخامس غصنٌ يابسٌ، حظٌّ عابس، ووهج ينوس. الخامسة والأربعون، باب الشيخوخة، وسؤر كوؤس حامضة. ساعتها انفجرت صاخبا: تباً لبقايا فنجان تركته ليدك الراعشة أيتها الغضناء. خدعتني زرقة عينيك. خذي دنانيرك وارحلي.
الرجل في الخامسة والأربعين ثمرٌ دان، وعمر ثان. عسلُ مصفٌى. نحلٌ شقي الشطحات، طويل الغيبات، مليء الحواصل. الرجل الأربعيني شامة الوقت، بيرق العاشقين، آخر المهزومين في زحام الوهم، وطعان طواحين الهواء و(المراجل الفاضية).
صديق يكبرني بخمس سنين، يقول لي منحنى الكلمات، لاهث الوجع، بعد سبع سعلات ناثرة: الرجل في الخامسة والأربعين أخو الشيخوخة، وابن الأرجوحة، خاتم زوجته الضيق، وربيب طاعتها الأعمى. فنضحك ملء الخدر ليسترسل بعد نحنحات باكية: الشعر يتهطل شيباً، والعمر يمتلئ عيبا.
لا يا صاح، يا رفيق العكاز قل هذا عن نفسك، فأنا أحسن عصفوراً لا يرقد في عش، ولا يسكن في غيمة، ولا ترضيه النهارات. روحي سماوات بعيدة عنيدة. لكني في لحظات يا صاحبي، أطمر وجهي في راحة كفي، وأنحب ملء رئتي: ماذا أنجزت؟ كيف عشت؟ ولماذا أخذت الحياة على محمل الجلد؟.
في الأربعين قالوا لي: الحياة تبدأ من هنا. عليك أن تعرف أن من دخل الأربعين بلا إنجاز لن يجز. فمن (طبع طبع ومن ربّع ربع). وعندما دخلت الرابعة والأربعين قلت: هذه سنة زقزاقية، كلها زوايا، لكني لن أختبئ في أي زاوية هنا أو هناك. روحي تتوق إلى الخمسة والأربعين. تعجبني دائرة الخمسة فهي بلا زوايا، مثل كرة الأرض، فرضت علي أن أواجه الحياة بكل حياة.
الدستور 2017-03-09