نسيان يتحدى الكيّ
يتباهي ثوريون وفلسطينيون أنّ نبوءة "كبارهم سيموتون وصغارهم سينسون" لم تحدث. والواقع أنّ بعض النسيان يصب أحياناً في خانة المقاومة والثورة أيضاً.
استمعت الثلاثاء الماضي، في مبنى قرميدي جميل قديم وسط رام الله، يُستخدم أيضاً قاعة لتدريب طلبة معهد للموسيقى والأوركسترا، إلى محاضرة لسيدتين من مخيمين للاجئين في رام الله، تتحدثان عن الجهد الاجتماعي النسائي في المخيمات، وذلك في ندوة من تنظيم مجموعة شبابية جديدة تسمى "نبض". والسيدتان من جيل الانتفاضة الأولى في الثمانينيات. وبعد نهاية النقاش، رفعت فتاة في نحو الثامنة عشرة من عمرها يدها، وسألتهما: كيف تربطون نشاطاتكم بنضال حركة التحرير؟. وسأل آخر: لماذا تركتم الأحزاب (الفصائل)؟
في اليوم التالي، وفي القاعة ذاتها، عُرض فيلم بعنوان "احكي يا عصفورة"؛ للمخرجة المصرية عرب لطفي. وأعترف أنّ حضوري ليس لأجل الفيلم، فهو متاح على "يوتيوب،" ولكن لأستمع لنقاش الشبان المتوقع بعده.
موضوع الفيلم بسيط نسبياً؛ كاميرا تصوّر مناضلات منهن من تعرضن للأسر ومنهن من لم يُأسرن. فهناك تيريز هلسة، وليلى خالد، ورسمية عودة، وعائشة عودة، وأمينة دحبور، ورشيدة عبيدة، ووداد قمري، وغيرهن. وكانت الإضافة -عدا تصوير المناضلات في بيوتهن، وأحياناً وهُنّ يعددن القهوة ويعتنين بالمنزل- هي العودة إلى أرشيف الصحف عن عملياتهن النضالية، وعن إطلاق سراحهن في عمليات تبادل الأسرى. والفيلم صوّر العام 1993، لكن لم ينته تحضيره وإخراجه سوى بعد 14 عاماً، أي في 2007.
بدا الفيلم وعرضه كأنّهما مربع يتكامل؛ الضلع الأول ذكريات المناضلات وهن صغيرات إبّان نكبة 1948، وكيف جاءت النكسة العام 1967 وهن صبايا، في عمر من يجلسون ويجلسن لحضور الفيلم. فكان ضلع الفيلم الثاني مرحلة نضالهن بعد أقل من 20 عاما على النكبة. وعندما أعد الفيلم (بعد نحو 20 عاما من عملياتهن)، كان جيل آخر يشكل الضلع الثالث؛ جيل انتفاضة 1987، يشعر باليأس مع وصول مقاومته لاتفاقات سياسية مقلقة (حينها)، وتأكد لاحقاً أنها كارثية.
وضع الفيلم ملاحظة في نهايته، أنّ المناضلات توزعن في بلدان عدة بعد هذه الأعوام الأربعة عشر. ورفض بعض المناضلات في الفيلم ذكر تفاصيل، مثل تجربة التعذيب في السجن، وأردن ربما نسيانها.
بعد الفيلم، وقف شاب في سن المدرسة، مربوع القامة، واضعاً يديه في جيبيه، وألقى كلمة بصوت حماسي، يحيي فيها الأمهات والأخوات المناضلات. وشرح للحضور شيئا عن تاريخ يوم المرأة. وكان واضحاً أنه يتحدث بمبادرة ذاتية غير منظمة.
أثناء الخروج، يعطيك شاب نحيل بياناً مطبوعاً، تجده يبدأ بعبارة "تحية ثورية لكل نساء العالم"، ويختتم بـ"كل عام وأنتن بألف خير، وإننا حتماً لمنتصرون"، ويحيي والدة شهيد هذا الأسبوع باسل الأعرج، والتوقيع "اتحاد لجان الطلبة الثانويين".
نتداول دائماً عبارة منسوبة لرئيسة وزراء إسرائيل السابقة غولدا مائير، والبعض ينسبها لبن غوريون، تقول عن الفلسطينيين: "كبارهم يموتون وصغارهم سينسون". والواقع أنّ الإسرائيليين، وبعد أن ظهر زيف الفكرة، طرحوا نظرية بديلة، هي "كي الوعي"، والتي طورها قائد الجيش الإسرائيلي السابق موشيه يعلون، إبان الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ويقصد فيها أنهّ يريد أن يحفر في عقل الفلسطينيين ذكريات مؤلمة، لا ينسونها، تمسح (تكوي بالحرق) أن المقاومة سبيل للتحرر. لقد راهنَت العبارة الأولى على أن ينسوا، والثانية على أن يتذكروا.
فرضية النسيان سطحية، لأنّ الاحتلال والشتات لا يُنسيان؛ فالأجيال الجديدة تعيشهما كما القديمة، والدبكة، والثوب، والطعام، والموسيقى، وقصص الآباء والأجداد لا تنسى. أمّا فشل التنظيمات السياسية، وإرثها، وحتى بطولاتها، فقد تنسى؛ ونحن نجد جهلاً بها فعلا لدى الجيل الجديد. وسلسلة التجارب الثورية المتعثرة تُنسى فعلا، لكن عندما يعود أطفال وطلبة بسن المراهقة ليمارسوا، رغم بيروقراطية وتعقيد وضع السلطة والفصائل وفي عصر تكنولوجيا المعلومات، محاولات كالتي أطلقت ثورة الستينيات، من لجان طلابية وغيرها، وينقبون في الأفلام والمحاضرات والذاكرة، فهم بارقة أمل تتناسى العثرات.
في فيلم "احكي يا عصفورة" مشاهد لأساتذة يحاولون تدريس الأطفال عقب النكبة. ولأنّه لا يوجد لوح، كانوا يخطون الأرقام والحروف على الرمل في العراء، أو يكتبون على قطعة خشبية من بقايا باب أو صندوق؛ فكانت البداية من لا شيء. والبداية الجديدة ستكون دائماً ممكنة مستندة لإرث وإنجازات، وليس من لا شيء.
الغد 2017-03-10