في تفسير ظاهرتي الانتحار والعنف الاجتماعي
أكد مصدر رسمي أن العام الماضي (2016) شهد أعلى حوادث انتحار في تاريخ المملكة، ذهب ضحيتها 117 شخصاً؛ وأن حالات الانتحار تنوعت بين إطلاق نار، وحرق، وشنق، وشرب سم، وتناول كميات كبيرة من الأدوية، والقفز من مرتفعات؛ وأن العدد باطراد سنة بعد أخرى. ولعل العيب في هذه الإحصاءات المثيرة خلوها من توزيع المنتحرين حسب السن، والجنس، والتعليم، والعمل.. لتسهيل الدراسة والفهم، والتفكير في حلول.
لقد تحول الانتحار في المجتمع الأردني من شيء غير مألوف، إلى حالات فردية نادرة، ثم إلى ظاهرة اجتماعية كارثية لم يفلح الوازع الديني، ولا الوازع التعليمي، ولا الإعلامي، في كبحها. وقد كنا قبل نصف قريباً، في أثناء احتكاكنا اليومي بالغرب عبر التعليم والتجارة والسياحة والأخبار والهجرة... نسخر منه عندما نسمع أو نقرأ عن حالات الانتحار المتكررة، وانتشار العنف الأسري والمدرسي والاجتماعي فيه، ووضع المسنين في مراكز أو مؤسسات رعاية. وكنا ننسب ذلك إلى غياب الوازع الديني أو إلى التفكك الاجتماعي والأسري. ثم إذ بنا، وفي أقل من عقد أو عقدين، نصبح مثلهم بتشابهنا وإياهم في المدخلات التعليمية، والإعلامية، والاقتصادية، والاستهلاكية.. لنبلغ مستواهم في العيش. أي إننا وقد "انعدينا" بمدخلاتهم كان لا بد من الوقوع في النتاجات نفسها. كان يجب علينا أن نتعلم من الغرب مسبقاً كيفية الوقاية والعلاج.
يعزو كثير من الأطباء النفسيين الانتحار إلى اليأس، أو إلى فقدان الأمل، أو إلى تحميل المنتحر لنفسه المسؤولية عن الفشل. بينما يرى ولبر هـ. فيري؛ المتبرع الأميركي الكبير (1910-1995) أن المنتحر قد لا يقدم على الانتحار لأسباب قوية، وإنما لأسباب تافهة أيضاً. فيما يعزو آخرون العنف الأسري والاجتماعي إلى الفقر أو إلى البطالة، أو إلى الجهل أو إلى الاضطراب النفسي أو لغياب الردع، أو للجريمة المنظمة التي يفقد فيها الفاعل الضمير فلا يؤثر فيه العقاب. أما رئيس محكمة العدل العليا الأميركية (السابق) إيرل ورن، فيرى أن الجريمة -في جزء منها- دَيْن مستحق على المجتمع يدفعه لتجاهله طويلاً الظروف التي تؤدي إلى الخروج على القانون.
وللأستاذ وعالم الاجتماع والباحث المتخصص في الانتحار، وصاحب مبادرة "وقاية الشباب من الانتحار"، لورين كولمان، رأي آخر في الحالتين؛ الانتحار والجريمة. فهو يعزوهما، وبخاصة الانتحار، إلى التقليد الأعمى (The Copy Cat Effect) أو العدوى (Contagion) اللذين تغذيهما وسائل الإعلام بالإثارة ونشر أخبار الانتحار والجريمة في الصفحات الأولى، وإظهار الفاعل وكأنه ليس ضحية أو مجرما، ما يدفع أمثاله في السن أو الشخصية إلى تقليده. فعندما يقوم طفل في مدرسة بإطلاق النار على زملائه، نفاجأ بموجة من القتل في مدارس أخرى. وعندما يُخطف طفل من بيته، نفاجأ بموجة من خطف الأطفال فيما بعد. ويستشهد كولمان بانتحار بطل رواية جوته "آلام فارتر" (1774) الذي كان يحب فتاة مخطوبة لآخر فشل في ضمها إليه، فقرر الانتحار؛ إذ لبس حذاءه الطويل، وجاكيته الأزرق وصدريته الصفراء، وجلس إلى طاولة وكتاب أمامه مفتوح، وفي الساعة الحادية عشرة تماماً، أطلق النار على نفسه. وبانتشار الرواية في أوروبا، قام كثير من الشباب بتقليده زياً وجلسة وساعة وناراً، لدرجة جعلت إيطاليا وألمانيا والدنمارك تمنع تداول الرواية.
ويتساءل كولمان: لماذا تؤدي الأحداث المرعبة التي تنشر وسائل الإعلام عنها إلى المزيد منها؟ لقد بحث كولمان في التغطية الزائدة للقتلة والمنتحرين والمآسي، فتبين له أنها تؤثر في أعمق أعاميق المجتمع، فتدفعه إلى التقليد: الظاهرة التي تؤدي إلى مزيد من أحداث العنف. إن التدفق المأساوي المعلوماتي على الفرد والمجتمع وكأنه شكل معاصر من التسلية، ضار، ويجب أن يُصحح. لكن وسائل الاتصال (الميديا) ما تزال تنكر ذلك، لأن الإثارة أجدى لها وأنفع. وحسب هوليوود، فإن العنف/ الدم يقود إلى البيع "If It Bleeds, It Leads".
يبدو أن التقليد نوعان: نوع عام أو مجتمعي، ونوع فردي. ويبدو أننا ضحايا للنوعين.
الغد 2017-03-13