عيد لمن لم يصبحن أمهات
في ثنايا الأرض الثورية؛ أي حيث قرر البعض رفض الظلم والواقع السيئ، وخصوصاً إذا كان هذا الواقع كيانا عنصريا، كالكيان الصهيوني، يصنّف الناس استناداً لأساطير دينية عِرقية، نساءٌ ما تزال قصصهن تنتظر التوثيق والتسجيل، يذهلنك لا وهُنّ يروين قصصهن فقط، بل وهنّ يبتسمن ويضحكن ساخرات من الجلادين وحماقاتهم وجبروتهم، أو يضحكن بألم مرارة الأيام، وهن يروين كيف تغلّبن على الخوف يوماً. وأخطط أن يكون لي عودة لاحقة لتوثيق ومحاولة فهم ضحكات الثوريات، الأمهات اللاتي اعتقلن للضغط على أزواجهن وأشقائهن، ومشاعرهن أثناء التحقيق معهن، واللاتي ذهبن للبراري يحملن الطعام والأعلام، والسلاح. وصبرن عقب استشهاد الزوج والأب والابن، وصرن "قادة" أبنائهن، يَقُمنَ بتدابير للحياة لا تقل عن تدابير جنرال.
ولكن هناك فئة لا أعرف أن هناك من ذكرها حقاً.
بالتأكيد هنالك سيدات لم يتمكن من أن يصبحن أمهات، ولكن الحنان والإنسانية التي عشن بها ونشرنها حولهن لا تقل عن أي أم. ولكن المقصود هنا من علِمنَ أنّهن يضحين بأن يَكُّن أمهات، أو اللاتي حرمن من أبنائهن، وحضرتني ثلاث سيدات بشكل خاص.
في حالات ليست قليلة، ولكنْ مسكوت عنها، لا تستمر فتاة في خطبتها لأسير، بل وحتى امرأة لزوجها، خوفاً من سنوات الأسر وما تعنيه. ولعلي أذكر الطالبة التي بكت حالها، فسألتها لماذا؟ فقالت أجبرني أهلي على فسخ خطوبتي لأنّ الاحتلال اعتقل خطيبي وحكم أربعة أعوام. ولكن أيضاً هناك تلك السيدة التي اعتقل خطيبها، فانتظرته، رغم أنّها لم تكن خطبة رسمية، سبعة عشر عاماً. وخرج وأبعد للشتات فلحقته وتزوجا، ولكن لأنها أواسط الثمانينيات، مرحلة الخروج من لبنان، جاء أمر "القائد العام" للمقاتلين بالالتحاق بالمعسكرات، وبسبب "طهريته" الثورية، التحق بالمعسكر الذي تصادف أنهّ في صحراء ليبيا، وعندما التم الشمل كان فات أوان الحمل، ولم تنتظره نِهايته طويلاً فتوفي. وعادت للوطن، وحتى اليوم ما تزال ترعى أسر أبناء شهداء وأقارب، براتب تقاعدي استحقته، وعندما سألها "مسؤول" فلسطيني كبير لماذا لديها راتب تقاعدي كبير وأنت وحدك، أخبرته، إذا كنتم تستطيعون إعادة الزمن حتى أنجب طفلاً فخذوا الراتب.
أمّا السيدة الثانية، فأبعد زوجها من البلد العربي الذي كانوا فيه بعد تحريرها من الأسر، ولأنّ اللقاء صار مستحيلا، ولأنها تريد الإنجاب، طلبت منه الطلاق بعد سنوات من الانتظار، ولبّى طلبها. وتقول؛ لكني لم أتمكن إلا من ممارسة الصد وقطع الطريق على كل من اعتقدت أنّه يتقرب مني.
أمّا أم أحمد القرى، السيدة اللبنانية، فذكر لنا قصتها معين الطاهر، في كتابه الذي صدر هذا الأسبوع، "تبغ وزيتون: حكايات وصور من زمن مقاوم"، وهي أم شهيدين لبنانيين استشهدا مع الثورة الفلسطينية، كلٌ في معركة منفصلة، وأصغرهم، جمال، استشهد في صنين، التي غنت عنها فيروز، والتي يكللها بياض الثلج طوال العام، وهناك استشهد أجمل شباب، ومنهم جورج عسل (أبو خالد)، الذي كتب عنه معين بسيسو كما يخبرنا الطاهر، "استشهد الماء ولم يزل يقاتل الندى، استشهد الصوت ولم يزل يقاتل الصدى".
ويحدّثنا معين وهو يتحدث عن رفيق دربه المناضل الأسطوري، علي أبو طوق، شهيد العام 1987، فيقول "لا يستقيم الحديث عن علي دون أن نذكر أم أحمد، أم الشهيدين، أحمد وجمال"؛ ويقول إنها كانت ترى في علي ابنها الأصغر جمال، وهو يرى فيها أمّه التي مضت سنوات طوال لم يرها فيها، فكانت صباحات أيام العيد موعداً ثابتاً للقاء بين أم أحمد وعلي وإخوته المقاتلين، تنتظرهم على مائدة الإفطار في بيتها بعد زيارة مقبرة الشهداء. وذات يوم أطلقت أم أحمد على علي اسم عمر بن الخطاب، وعندما سألها معين عن سبب التسمية، قالت "كنتُ في الجنوب لتوزيع حلوى العيد على المواقع، وطوال الطريق لم يتناول علي شيئًا منها رغم إصراري عليه. وفي الموقع الأخير بقيت قطعة كعك واحدة، ناولتها له وقلتُ له جاء دورك، وبينما يهمّ بتناولها، وإذ بأحد الإخوة يصل الموقع، فما كان منه إلّا أن ناوله قطعته، وعاد معنا وهو مسرور الخاطر، وأنا ساهمة أفكر في تفانيه وزهده".
الغد 2017-03-17