ديك الطحين
كثيراً ما نحتال على أنفسنا فنسمي الأشياء بغير أسمائها، فالتجاعيد العرضية التي تتوالد على جوانب العيون، لا نسميها خطوط الزمن أو خثرات العمر، بل ندعوها من باب التفاؤل بخطوط الضحك وبصماته!، رغم أن كثيراً من تلك الوجوه قد أدمنها العبوس ولازمها البكاء لأمد مديد.
وبذات الخطوط سيحلو للفقير المتأرجح بخط وهمي يرتفع سريعاً نحو هاوية لا قعر لها، سيحلو له القول: والله لو كان الفقر خط بارليف لمحوته بلعابي وأصابعي، لكن الفقر أكثر من خط، وأكبر أن يمحى ويقرض حتى بالأسنان والسنان، ومع ذلك تعجبنا هذه الخطوط، فلا يحلو لنا تصنيف فقرائنا ضمن عدد كبير منها فحسب، بل شاط الأمر إلى وضع طبقات لهم تبعاً لذلك: فهناك فقراء مكتفون، وفقراء مدبرون.
هناك فقراء مستورون، يؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة، صابرون بانتظار الفرج، أو كاظمون على مضض، بعكس بعض الفقراء الشعبيين، الذين لا يحبون تسميات الحكومة ومصنفاتها، بخصوص الفقر وخطوطه الطولية والعرضية والكنتورية، فالكثير منهم يعجبهم أن يشبهوا حالاتهم الفقرية بمصطلحات لها وقعها الخاص.
فما زال كثيرون يتعاطون تعبير (على الجنط)، لوصف أوضاعهم الزاحفة، أي أن الحالة (مبنشرة)، ولا قدرة لهم على مواصلة المسير، حتى ولو جراً أو سحباً، ومن هذه الزاوية قد يجد أحد الأذكياء الفرصة سانحة ليتهكم: إن الذي يمتلك سيارة حتى لو كانت على الجنط، لا يستحق أن يحظى بلقب فقير.
ومن الفقراء من يصنف نفسه من الذين إذا ضربتهم في الجدار فلن (يرنون)، أي لن يصدر لاصطدامهم صوت، حتى لو كان كهسهسة النملة؛ فجيوبهم خالية من أي قرش أو معدن، وهنا يصطاد بعض النبهاء الحالة ويقول: يحق لهم أن لا يرنون، فكل عملتهم ورق بفئات عليا، أو بطاقات بنكية، أو فواتير مستحقة الدفع.
قديماً كان الفقراء يصفون فقرهم بلغة شاعرية، وصور محملة بكثير من الخيال، فكان شائعاً مثلاً أن فلاناً (يطحن على الديك)، أي أنه ولشدة فقره، فإن القمح الذي يأخذه إلى المطحنة يحمله الديك لقلته، بدل أن يحمله بغل أو جحش، وقد تنبثق من هذا التصنيف اللطيف حالة شديدة التعبير، عندما يعلن أحدهم، أنه اضطر لبيع ديكه الهزيل الممعوط الذي كان يطحن عليه.
الدستور 2017-04-18