سراب واشنطن السياسي
مستبقاً لقاء الرئيس الفلسطيني عباس، قال مستشار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لشؤون الامن القومي هربرت ريموند ماكماستر «لا يوجد وقت لدى ترامب لمناقشة وجهات النظر مع عباس»، مستدركا بأن اللقاء «لن يستثمر في سياسات لا تقدم المصالح الأمريكية وحليفتها»، ويقصد بالحليفة الكيان الاسرائيلي بحسب ما نقلته صحيفة يديعوت احرنوت.
تصريحات مكماستر التي تبعها لقاء عباس ترمب كشفت عن حقيقة السعي وراء السراب السياسي في امريكا؛ فالادارة ليس لديها ما تقدمه للرئيس عباس إنما لديها ما تطلبه وتفرضه على رئيس السلطة الفلسطينية برعاية مصالح الكيان الاسرائيلي والولايات المتحدة دون النظر او حتى الاستعداد لمناقشة المصالح الفلسطينية.
فالرئيس الامريكي مشغول بشكل كبير في معاركه الداخلية مع الاعلام والكونغرس الامريكي، ويناقش مؤخرا امكانية منع الرئيس من حمل هاتف ايفون الخاص به للسيطرة على تغريداته المنفلتة من عقالها، خصوصا انه مقبل على لقاءات مهمة الاسبوع المقبل في القارة الاوروبية تضم قادة دول الناتو، والاهم من ذلك لقاؤه بوتين في هامبورغ ما يعني ان الرئيس مطالب برسم معالم سياسته والالتزام بها حتى لا تتشعب النقاشات وتتشتت الحوارت لتتحول الى مجرد سراب جديد وثرثرة لا معنى لها.
حالة التذبذب الشديد التي يبديها ترمب في التعامل مع الملفات الكبرى تلقي عبئا كبيرا على بنية السياسة الخارجية الامريكية والامن القومي، مهددة بتفكك مقولاتها وانهيار اسسها؛ ما يخشاه المشروعون والمسؤولون في ادارة ترمب ويدفعهم لمزيد من التحفظ في رسم معالم وتوقعات السياسة الامريكية الجديدة لتصاغ في عبارات عامة لا نهاية لها، محولة بذلك الحماسة الكبيرة تجاه واشنطن والادارة الامريكية من قبل السلطة الفلسطينية والدول العربية الى مجرد سعي محموم وراء سراب واشنطن السياسي.
سراب السياسة الامريكية سرعان ما تبدد مؤخرا؛ فعملية الاستنفار في شبة الجزيرة الكورية والاندفاعة الحماسية في سوريا قابلها تصريحات ودودة وخجولة لا تساعد على بناء سياسة متماسكة ومستقرة امريكيا، ولعل آخر مشهد يعزز هذا التصور المكالمة التي جمعت بين الرئيس الامريكي والروسي مستبقة استئناف مفاوضات استانة في كازخستان؛ اذ ستناقش الاوراق الروسية لإنشاء اربع مناطق آمنة في سورية، متجاوزة وملتفة ومحتوية الطروحات الامريكية في اعقاب ضرب مطار الشعيرات.
المحادثات الهاتفية الروسية الامريكية التي جمعت ترمب وبوتين وصفت من قبل الناطق باسم البيت الابيض سبينسر بالايجابية اذا كان محورها مفاوضات الاستانة وسبل انجاحها؛ فوقف اطلاق النار سيكون مقدمة للبدء بالمرحلة الانتقالية التي ستعيد الاسد الى المربع الاول بمناقشة مستقبله السياسي في المرحلة المقبلة، ولكن ضمن احتياطات روسية كاملة، علما ان التسريبات والانباء باتت تتحدث عن قبول واشنطن بأي بديل تطرحه موسكو ليحل محل الاسد لإدارة المرحلة المقبلة؛ امر دفع بوتين في مؤتمره الصحفي مع المستشارة الالمانية ميركل الى القول بأن الشعب السوري صاحب القرار في هذه المسألة، غير انه مختلف ولديه تباينات كبيرة؛ فروسيا تريد ان تستثمر في اللحظة الراهنة وتستغلها لأقصى الحدود لتبقى الطرف المسيطر في الساحة السورية، مبددة اوهام استعادة الولايات المتحدة للسيطرة والتوازن السياسي والعسكري في سوريا.
المقترحات الامريكية والروسية حول الازمة السورية ستجد صدى لها في لقاء ترمب وبوتين في هامبورغ قريبا على هامش اجتماع قادة حلف الناتو في المانيا؛ ما يجعل الاستانة فرصة مناسبة لإعادة ترتيب الاوراق في الملف السوري؛ ورغم الاستعدادات الا انه يصعب التنبؤ بنتائج هذا اللقاء المرتقب والمترافق مع توتر كبير في شبه الجزيرة الكورية وتأزم العلاقة مع طهران، وتململ الادارة الامريكية من الاتفاق النووي دون وجود صيغ بديلة ممكنة للتعامل مع طهران مستقبلا.
روسيا بدورها تسعى لتحضير أوراقها وتجهيز فروضها في المنطقة عبر الاستانة الا ان الولايات المتحدة ممثلة بإدارة ترمب لم تتمكن بعد من ترتيب أوراقها التي بدأت اكثر تبعثرا وتضاربا بين حلفائها المتلهفين لاندفاعتها، والقلقين من سراب سياستها في ان واحد، سواء في الملف السوري والعراقي او شبه الجزيرة الكورية او اليمن وفلسطين؛ فالنتائج المتحققة من التحركات الامريكة الواسعة اعطت ردود فعل متناقضة وسلبية زادت من اعباء الادارة الحالية التي تواجه العديد من الملفات المتازمة؛ اذ وظفت لتحقيق طموحات إما ذاتية ومصلحية ضيقة او استثمرت لتعظيم مكاسب الخصوم والمنافسين.
الادارة الامريكية لم تتمكن بعد من بناء سياسة حقيقية يمكن التعويل عليها، والاندفاع بقوة وراءها اشبه بالبحث عن السراب؛ فالسياسة الامريكية مرتبكة ومظاهر ارتباكها وتذبذبها واضحة لمن يقتربون من البيت الابيض، ورئيسه الغارق في الازمات الداخلية والمستنزف في محاولة فهم تداعيات قراراته وتصريحاته على المشهد السياسي العام اقليميا ودوليا.
السبيل 2017-05-04