حكمة الطريق
تصلح الطريق بعامة مؤشرا إلى المجتمعات يساعد في فهم ثقافتها وأزماتها وقوتها وضعفها، حتى التطرف والكراهية يمكن الاستدلال عليها من حال الطريق في الدول والمجتمعات، لكن الطريق في شرق المتوسط أكثر من ذلك، حيث استمدت المدن والمجتمعات وجودها من الطريق، وربما تؤشر حال الطريق والنقل والقيادة على الطرق إلى ما اكتسبته وخسرته المجتمعات في تطورات الطريق وتحولاتها، عندما تحولت مواردها الاساسية (الطريق) إلى وسيلة يومية للحياة والعمل، لماذا يلتزم الناس القوانين والقواعد الاجتماعية في حياتهم اليومية ويكسرونها في الطريق في أثناء قيادتهم للمركبات؟ الحال أن جميع سائقي السيارات تقريبا يكسرون قوانين السير مرات عدة. لكن فئة من الناس يشكل خرق قوانين السر وتقاليده عادة دائمة ودائبة، وربما يكون السبب أنهم يشعرون بالأمان وعدم تحمل العواقب، بخلاف الأمر خارج الطرق حيث يصعب تلافي الأثر القانوني والاجتماعي للسلوك، ففي الطرق لا تكاد تحدد هوية السائقين، ما يجعلهم يشعرون أنهم خارج مجال القانون وتطبيقه.
كثير من السائقين يتجولون في الطرقات بهدف المتعة والإثارة والمخاطرة، وتمنحهم المجازفة متعة وفرصة لجذب الاهتمام، وبعضهم يجد متعة في إجبار الآخرين على الانتظار كأن يسد الطريق أو يسير بسرعة منخفضة، وعلى نحو عام فإن روبرت روس ودانيال انتونويتش (كتاب: سائقو عجلات الموت) يستخدمان علم الاجتماع وتحديدا علم الجريمة والسلوك الاجتماعي، ويجدان أن الفهم العلمي لمخالفات القيادة هي نفس مبادئ علم الجريمة، أي أن الدوافع الجرمية نفسها هي الدوافع لانتهاك قوانين وتقاليد السير.
وقد وجدت دراسات علاقة بين السلوك العدواني وبين حوادث المرور، وبمقارنة سلوك السائقين بسجلاتهم المدرسية والسلوكية فقد وجدت الدراسات أن نسبة كبيرة من مرتكبي الحوادث والمخالفات كانوا ذوي سلوك عدواني، ولديهم سجلات في مؤسسات اجتماعية وأمنية أو المؤسسات التي يعملون فيها، والعكس صحيح أيضا فإن متجنبي الحوادث والقيادة اللااجتماعية يتجنبون أيضا المخالفات السلوكية في عملهم وحياتهم، وتؤشر سجلات الأمن إلى أن ذوي الاسبقيات الجنائية هم أيضا ذوو أسبقيات في مخالفات السير. وأظهرت دراسة بأن 35 في المائة ممن يوقفون سياراتهم ضد القانون لديهم سجلات عقوبات إجرامية.
المؤلفان يعرضان نتائج دراسات أجريت في بريطانيا وكندا والولايات المتحدة، لكنها تصلح بالتأكيد للملاحظة والاقتباس في بلادنا، وقد تفيد أيضا في القياس على مسائل أخرى حتى لو لم يكن للمخالفين سجلات جنائية أخرى، فإنها تمنح المراقب مجالا للتقييم والفهم الاجتماعي والسلوكي للناس، وتؤشر إلى أفكار كثيرة يجب الاهتمام بها ورصدها، ذلك أن الطريق وببساطة تؤشر إلى القوة والضعف في حياتنا الاجتماعية، وفرصنا في الإصلاح والتنمية، ومؤكد أن قضايا الحوادث والمخالفات المرورية تستحق الكثير من الدراسات والاستطلاعات العلمية، وهي بالتأكيد أكثر أولوية وأهمية مما تنشغل به الدراسات والندوات والمؤتمرات. لكن ربما يكون الأكثر أهمية أنها تساعدنا في وعي الذات، وربما تمنحنا حكمة لتقدير وجودنا ومستقبلنا.
هناك مسألة أخرى تحتاج إلى توقف ومعالجة وهي استخدام السيارات لأهداف عنفية أو جنائية، مثل الصدم المتعمد للمركبات والناس والأملاك والمباني والمرافق، وبالطبع فإن كثيرا من الحوادث والمخالفات المرورية مرتبطة بنقص المعرفة والمهارات الاجتماعية والفنية، وليست مشكلة جنائية أو سلوكية، وهذا شائع، ويمكن ملاحظة الارتباك والفشل في قيادة المركبات على نحو متكرر ومألوف، وفي بعض الأحيان يغلب الجهل بالقواعد على معرفتها فتكون المخالفة قاعدة والالتزام مخالفة، على سبيل المثال فإن إشارة قف التي تحدد الأولويات في التقاطعات لها قوة قانونية مساوية للإشارة الضوئية الحمراء حتى لو لم يكن ثمة مركبات في التقاطع، لكن أحدا في الأردن لا يستطيع أن يقف عند إشارة قف لمدة 3 ثوانٍ إلا بعد منتصف الليل أو على سبيل المغامرة والاستعداد للتعرض للمضايقة والإساءة فقط لأنه التزم بالقانون.
ربما يمنحنا النظر في النقل والحوادث المرورية، حيث يموت بسبب حوادث الطرق أكثر من مليون وربع المليون إنسان سنويا فرصة جديدة ومبدعة لفهم الفشل والتقدم والتسامح والكراهية في العالم وفي بلادنا ومجتمعاتنا.
الغد 2017-05-17