الأسرار العميقة للنكسة
كنت يافعا ومهتما بالسياسة بما يكفي لمتابعة دقائق ما ينشر بعد تلك الهزيمة الصاعقة الماحقة. أي أساطير كانت تنتشر بين الناس العطشى لأي معلومة، والمتلهفة لفهم أي شيء عما حدث. لقد تكفل الزمن بغربلة كل ما نشر وبالنهاية اتضح ان كل الخلفيات الاستخبارية والمؤامراتية أو الاختراقات، وهي كانت موجودة بالفعل، لم تكن الشيء الحاسم في صنع الهزيمة، بل كانت نفسها جزءا من عناصر التفوق الكثيرة عند العدو في ميزان القوى المختل بين الطرفين.
كان الإسرائيليون أكثر تقدما في كل شيء؛ في التحضير والتخطيط والتنظيم والمعرفة والتسليح بل والعدد أيضا بعكس الوهم السائد. فقد كانت "دولة العصابات وشذاذ الآفاق" قادرة على أن تضع تحت السلاح في يومين أكثر من عدد الجيش المصري كاملا.
المد القومي والناصرية صنعا أمجادا معنوية وبلاغية أكثر مما صنعا تقدما اقتصاديا اجتماعيا ومؤسسيا. حصل تقدم في التنمية والتصنيع أقل قيمة من الخطاب الهادر الذي ينتصر بالبلاغة وليس بالإنجاز الحقيقي، فكانت الصدمة بالوقائع التي صنعت الهزيمة مضاعفة. والبلاغة هي الخصوصية للثقافة العربية التاريخية التي تميزنا. من أيام العرب الأولى في سوق عكاظ كان البيان هو ميدان المقارعة الأعظم، وقد يعود ذلك إلى البيئة الصحراوية والبداوة حيث لا استقرار ولا زراعة ولا بناء على غرار الحضارات الزراعية في النيل وما بين النهرين وفارس وروما وأثينا. نحن لدينا اللغة، فقط، ننحت ونبني منها قصورا. الشعر والخطابة واللغة فقط إرثنا وفخرنا وكل ما بني بعد الفتوحات من إرث وآثار كان بتأثير مناطق الحضارات الأخرى في الشريط الضخم من جنوب آسيا الى شمال أفريقيا.
بدأ عصر التنوير العربي في الحقبة العثمانية واستمر أثناء وبعد مرحلة الاستعمار، لكن اغتصاب فلسطين والنكبة صنعا اضطرابا عظيما؛ ثقافيا وسياسيا في الشرق العربي قطع خط التنوير وصعد الخطاب القومي والثوري الذي يقدم بلاغة وليس حلولا، فقد بدأنا نحن ودول شرق آسيا في الستينيات من مستوى واحد في معدل الناتج الوطني الاجمالي وخلال عقدين او ثلاثة تخلفنا عنهم عدة اضعاف.
في تاريخ الشعوب يحدث أن الهزائم والانكسارات تؤدي الى مراجعة وتغيير وأخذ الأمة في مسار جديد كما حصل للدول المهزومة في الحرب العالمية الثانية، لكن كلما تأملت في هزيمة حزيران أرى أنها الكارثة الكبرى التي كان لها عواقب مدمرة على مدى العقود التالية. لقد كانت هزيمة ماحقة للذات العربية لم تشف منها، ونتج عنها الارتداد الدفاعي عن الهوية وبداية المد الديني الذي تصاعد بل تعاظم مع كل فشل لاحق، وإحدى المحطات اللاحقة هي حرب الخليج الثانية. فقد شهدنا نزوحا أو هروبا شاملا إلى الوراء، وفي تقديري إن نمط التدين الذي ساد ويسود اليوم غير مسبوق في أي عصر في تاريخنا الإسلامي. إن العجز والفشل أنتجا ظاهرة فريدة من الهروب الشامل بالمكابرة والحلم وتقمص شخصية افتراضية من الماضي المضخم والمتوهم يعفيها طابعها الغيبي من المساءلة المادية.
إن كمية المحتوى الديني الشفوي أو المكتوب عبر كل الوسائط من الكتب والكاسيتات وصولا الى الفضائيات والإنترنت وفي حديث الناس اليومي لا يشبه شيئا قبلنا أو حولنا. إنها ظاهرة سيكلوجية سياسية اجتماعية ثقافية جوهرها الهروب من مواجهة تحديات الواقع الذي صدمنا بهزائم ماحقة، والانغماس أكثر فأكثر بالتعويض الذهني الذي يوفره التدين والاعتقاد الديني وهو ما ينتج عنه الفصام في السلوك الحياتي للأفراد كما نشهده في حياتنا اليومية. للخروج من الفصام بين التصور المفترض والواقع ذهبت قوى وقيادات لتطبيق الفكرة وتجسيد الاعتقاد بالقوة، فانزلقت إلى العنف والإرهاب الذي يصبح في العادة موئلا للأوساط والعناصر الفاشلة وذات الميول العنيفة والإجرامية.
قد يكون هناك بعض الإسقاط والقسر في التحليل السابق، لكنني على قناعة بأن حزيران 67 كان محطة مفصلية في كل المسار اللاحق، وأن تلك الهزيمة هي سر نصف قرن لاحق من التعثر والارتداد والفشل.
الغد 2017-06-05