المؤرخ والبقال !!
يفرق الكاتب والمؤرخ صلاح عيسى بين طريقتين لقراءة التاريخ، احداهما يمارسها المؤرخ الجدير بهذه الصفة والاخرى يمارسها البقال الذي يحسب الربح والخسارة بالميزان ولا شأن له بأي شيء آخر، وليس هذا انتقاصا من مهنة البقال؛ لأن هناك بقالا انجليزيا انجب امرأة حديدية هزمت رجالا يقف الصقر على شواربهم، لكن التاريخ بجدليته وصيرورته ومكره ايضا لا يقبل التعامل معه بالحاسوب، لأن هناك خسارة قد تكون رابحة والعكس صحيح ايضا لهذا يقال ان للتاريخ نصفا ثالثا هو التراجيديا التي تعبّر عن مصائر ابطال افتدوا شعوبهم وانتصروا لقضايا عادلة، وخاضوا حروبا بدون الحصول على بوليصة تأمين تضمن لهم النصر !
وتقييم قائد او حقبة من الزمن يجب ان يتخطى ميزان البقالة، لأن هناك مفاهيم يجري بثّها وترسيخها، وهناك منجزات لا ترى بالعين المجردة كأطلال الامبراطوريات، لأنها ثقافية بامتياز، لكن البرغماتي او البقال الذي لا يفرق بين السردين والسجائر والصابون والسكر الا بما كسبه من بيع هذه السلع لا يعترف بالمفاهيم او المنجز التاريخي حتى لو كان الدفاع الباسل عن هوية كانت في مهب عواصف الغزاة ّ.
وحين يُحذف البعد المعنوي والرمزي من اية ثقافة تصبح مجرد تراكم معلومات، يصبح من يملها مؤهلا لللاعارة او الاستئجار، وما نخشاه هو ان تسطو معايير البقالة على معايير التاريخ، بحيث تسقط الكوابح ويصبح كل شيء مباحا ومتاحا بلا مساءلة او حتى عتاب !
وهناك في تاريخنا العربي من قضوا في المنافي او الزنازين لكنهم تفرغوا للسهر في قبورهم بانتظار قيامة ما بشروا به من افكار ورؤى تعيد للانسان والوطن الاعتبار، واذا كانت السياسة توصف بأنها فن الممكن او المصارعة الحرة التي لا تضبطها حدود او قوانين فإن هذه الدلالات ترسبت من ازمنة الانحطاط والتوحش وستبقى لعلم السياسة دلالاته الحضارية باعتباره وسيلة ارتقاء بالبشر وضبط لمنظومة العلاقات بينهم حكاما ومحكومين !
ان للسردين والصابون والسجائر والسكاكر مكانا آخر غير كتاب التاريخ !!
الدستور 2017-06-07