صار الكاتبُ كِتاباً
أصدر مركز قلنديا للإعلام، وهو مجموعة تعمل تطوعاً منذ نحو ثلاثة أعوام من مخيم قلنديا، قرب القدس، لتقديم أخبار الشأن الفلسطيني، كتاباً لا يوجد فيه فهرس، ومقدمته لا تحكي قصة الكتاب، وعنوانه "حكايات شهداء مخيم قلنديا 1967 - 2017"، وفيه قصة "أكثر" من سبعين شهيدة وشهيدا من المخيم. صاغته أسيل عيد، وجمع مادته نحو عشرين شابا وشابة.
محمد اسماعيل مناصرة، كانت لديه سيارة ذهبية اللون، لم تكن تخجل من اللمعان بصحبته، تصطف في أزقة المخيم. من هناك كانت نظراته وعقله يشخصان إلى قرية أهله التي طردوا منها، إشوع، تبعد نحو 20 كيلومترا غرب المخيم. ذهب مع نهايات انتفاضة الأقصى، عام 2003، إلى أبو ديس لدراسة الإعلام في جامعة القدس. كالعادة لم يجد عملا بسهولة، فعمل بعد تخرجه بمجالات بعيدة عن دراسته. ولكن ولعه بالرياضة والمخيم جعله يخصص وقته لتغطية أخبار نادي المخيم الرياضي؛ ليست المباريات فقط، بل معسكرات الأشبال، ووفود خارجية وداخلية. ويسافر للأردن والولايات المتحدة وروسيا، في تدريب أو سوى ذلك، ويستغربون عودته فيشكو أنّه لا يطيق الغربة. وصار ضابطاً في إعلام المخابرات الفلسطينية، وبعد الاستقرار الوظيفي، يعود للتفكير ماذا أفعل للمخيم؟ جمع تاريخ الرياضة في المخيم ليصدرها كُتيباً العام 2011. وفي 2015، يريد تطوير المهمة، فيؤسس في ذكرى النكبة، مع مجموعة من شباب وشابات المخيم "المركز الإعلامي"؛ يجتمعون في مكتب بسيط صغير على بوابة المخيم، وتأخذهم الأحاديث لقصص وأغاني الشهداء والبطولة في المخيم. وكان آخر اجتماعٍ له معهم، أول اجتماعٍ لمشروع تأليف كتاب عن شهداء المخيم، فكان هو أول شهيد في الكتاب.
كان إياد سجدية، من قرى القدس أيضاً، من صرعة، القريبة من إشوع، وكان أيضاً طالب إعلام في "أبو ديس"، وكان يمازح زميلته، قبل استشهاده، تريد تأخير تخريجها، ويخبرها "خلصي منشان الحجة (أمها) تفرح". وكما يقول الكتاب، ثلثا حياته للمساكين، لعائلته، لأهله، للناس، وثلثها لكتبه ودراسته. يعمل منذ طفولته ليساعد عائلته مادياً ويساعد هذا بإعطائه ملابس العيد، وهذا علبة سجائر. ويسمي أمّه الشحرورة، ويقبلها بمناسبة وبدونها. وشارك في تأسيس المركز الإعلامي. وعندما هاجم الجنود المخيم، لإطلاق جندي ضل طريقه داخل المخيم، قرر شبان مواجهة الجيش. واعتلى هو مع أصدقاء منزل يبعد عن منزله قليلا، وكان يتمتم أغنيته المفضلة، "جنة.. جنة.. يا وطّنا جنة"، ذهب منبطحاً زاحفاً يستطلع ما يحدث، وطالت غيبته، فزحف الأصدقاء، ليجدوا رأسه مصاباً برصاصةمتفجرة، ودمه سال على جدار المنزل راسماً لوحة متشعبة.
أما أحمد جحاجحة، فأولع بالكاميرا. وصار اسمه مصور الشهداء. ويحدث أمه عن عظمة وثواب الشهادة. وتخبره "يما بديش الجنة.. بدي إياك انت". يسابق حبه للتصوير وتقنيات المونتاج حبه الدبكة. وبدأ يدرس الإعلام في "الكلية العصرية" وكان أول أفلامه بعنوان "أولاد المخيم"، وصار مع تصوير الشهداء ومواكبهم، يبكي ألماً ويضرب رأسه بالحيط ويردد "فرطت المسبحة بيصيدوا فينا واحد واحد"، وعندما سقط أعز أصدقائه شهيداً، توقف عن التصوير، وذهب ينام بجانب القبر ليلا ويغادره صباحاً. وبدأ يستأنف أحلامه بمعرض صور وبتخرجه. وفي 15 \12\ 2015، كان الجنود يعدون العدة لاقتحام المخيم بتوقيف المارة على بواباته وتكسير الكاميرات أمام المحلات، حتى لا توثقهم، فوجئ بهم وهو يسوق سيارة، وأسرع ودهسهم، وأطلقوا عليه النار، ونزل من السيارة وأشبعوا جثته رصاصاً، إعداماً ميدانياً.
قتل محمد مناصرة برصاصة طائشة في شجار عائلي كان يحاول وضع حد له. وما زال مشاهدوا كرة القدم يتخيلون بعد كل مباراة تعليقاته لو كان موجوداً.
غيّر صديق إياد مشروع التخرج المشترك، ليصبح عن حياة صديقه بصفته "حارس المخيم"، أو المهلهل، في استذكار للزير سالم، والمسلسل المشهور، الذي كان إياد يحب تقليده، وصار إياد فصلا في الكتاب الذي كان يعمل عليه.
وبعد أن أخذ الجنود جثة أحمد لفوه في كيس أسود، ووضعوه في الثلاجات، خلع والده كوفيته يوم استلمه لتدفئة ابنه فيها، وقصت أمّه شريطاً أحمر في قاعة المخيم احتفالا بمعرض صوره الأول، وصار فصلا في الكتاب الذي كان يعمل فيه.
كل هذا يحدث في زمننا.. ليس من الماضي.
الغد 2017-06-09