رحلة إلى وسط البلد
«وسط البلد» تؤرخ لذاكرة مدن وأوطان، شوارع مزدحمة وأناس تراهم يسيرون ولا يشعرون بغيرهم، وتزدحم الشوارع والارصفة بالمارة والباعة المتجولين.
في وسط البلد تذوب علاقتك مع العالم الا مع نفسك، الروابط القديمة «لا الطبقة والعائلة والجهة الجغرافية والوظيفة ولا موقعك الاجتماعي او حسابك في البنك».
في وسط البلد، انت وحدك تقيم في روح المدينة وفي صرتها، وسط عمان بني بمزاج اوروبي وعثماني وشامي، بني ليكون مجمعا للطبقات، ومركز مدينة يشبه الاسفنج لامتصاص الشريد والغريب وثقب من ثقوبها ليعيش فيه مكتفيا، ولكنه على صلة ببقية جسم المدينة الضخم.
هنا في وسط البلد تشعر بالألفة، ورغم ما تشعر به من غمرة الازدحام الا أنك تشعر بالسكينة والاطمئنان من وحي الاماكن العريقة والعتيقة، من المسجد الحسيني وسوق السكر وطلوع بسمان الى مطعم « الكت كات» وابو سارة وصالون «العم ابو بندلي» وكشك الجاحظ. اماكن هادئة ولطيفة وحتى الضجة الموجودة، فانها لون من ألوان روقان الحياة هناك.
في رمضان الناس تسير في وسط البلد كأنهم في احتفال جماعي او في طريقهم الى حفل، يهرولون ويخفي كل واحد شخصيته الحقيقية، يتبادل الناس الاعتراف غير المعلن بالتساوي، خارج الجاذبية الاجتماعية، يتشاركون بالازدحام والفوضى والتوقف في طوابير انتظار العصائر والحلويات ويهرعون الى الصلاة في مواعيد اقامتها.
في وسط البلد تصاب بألفة غير عادية، نعم تتذكر الالفة لانك تصاب طوال اليوم بشراسة غير اعتيادية، وسط تمتمات الاطمئنان والهدوء والشعور بالامان التي تنبعث مع وجوه الناس البريئة والمتجردة من اقنعة المدينة. صوت ام كلثوم وادعية وموسيقى رمضانية محفورة في الوجدان، وهمهمات لدراويش يلهثون وراء الستر والرضا والعفة والعفو.
هي أشياء بسيطة تحرك الجو العام برمضان في وسط البلد، اصوات لتراتيل القرآن بصوت محمد عبدالباسط عبد الصمد وادعية رمضانية تنبعث حفيف اصواتها من روح ازقة قديمة، تتسلل الى الروح قبل أن تطال المسامع، تشعرك برهبة الشجن الروحي فيها، ولكنه شجن يكون مختلفا في وسط البلد، لا يتركك الا أن تغرق به، يمتزج بلحظة انصياع وطاعة واستسلام لأمر الله.
في الرحلة الى وسط البلد، تستعيد عالما نفسيا مفقودا وضائعا ومثقوبا من الذاكرة، لا تعرف أين اضعته؟ هل في بلاد الغربة مثلا أم في متاهات المدينة الجديدة؟ فهذا ما قد يجعل أن كل الناس في وسط البلد يشبهون بعضهم البعض، وأن الفروق باختلاف تباينها تتلاشى وتختفي بقدرة المكان وسلطته العفوية والفطرية على الوجدان.
ومن هنا تبدأ الحكاية.
الدستور 2017-06-14