من الانقسام إلى الانفصال
تمر هذه الأيام الذكرى العشرية الاولى لواقعة الانقلاب الدموي، الذي قامت به حركة حماس في قطاع غزة، واسست فوق معطياته سلطة الامر الواقع المستمرة الى الآن. وفيما لا تلوح في الأفق اي اشارة على امكانية تغير الحال القائم على سلطة الحديد والنار، تشتد عوامل اليأس والاحباط، وتكاد تنطبق السماء على الارض، ويجثم اليأس على الصدور، ليس فقط بفعل تحول عملية الانقسام المديد الى انفصال غير معلن رسمياً، وانما ايضاً بفعل انحدار الاوضاع من سيئ الى أسوأ، وتتابع الانهيارات على كل صعيد في القطاع المنهك المحاصر، بما في ذلك الماء والكهرباء.
سبق ان تم وصف ما جرى في قطاع غزة، في حزيران ايضاً، ويا للمفارقات الفارقات، على انه نكبة جديدة في قلب النكبة القديمة، وان ما حدث شكل الضربة الأقسى التي تعرض لها الكفاح الوطني الفلسطيني على الاطلاق، وان هذا الانقسام بمثابة الدجاجة التي تبيض ذهباً في حِجر اسرائيل الواسع على اي حال، ناهيك عن جملة طويلة من التوصيفات السلبية لهذه الحالة التي لا سابق لها في تاريخ حركات التحرر الوطني، لا سيما التنازع على جلد الدب قبل اصطياده بوقت طويل.
في السنوات الاولى لواقعة الانفصال هذه، ساد الاعتقاد بأن هول المخاطر، وجسامة التحديات، وكثرة الاستحالات القائمة موضوعياً امام ادامة هذه الحالة الشاذة الى ما لا نهاية، أمور من شأنها ان تعيد الرشد الى عقول من دخلوا بأرجلهم الى اكبر سجن مقام في الهواء الطلق، وتردّهم حتماً الى جادة الصواب بعد مرور ما يكفي من الوقت، بعد ان تتبدد اوهام الحصول على اعترافات اقليمية بأول امارة اسلامية، شاءت اقدارها ان تقع في حيز جغرافي محاط بالخصوم والاعداء الاشداء.
كان كاتب هذه السطور بين قلة قليلة رأت ان عقارب الساعة لن تعود الى الوراء، وان الوقائع الانفصالية التي كانت تسابق الزمن، سوف تفضي الى حقيقة صادمة، مفادها اننا بتنا امام كوريتين فقيرتين في غرب آسيا، غير متصلتين لحسن الحظ بخطوط وقف اطلاق نار، وهذه حقيقة شديدة المرارة كان يصعب على كل ذوي الشأن الاقرار بها علناً، او التسليم بنتائجها بعيدة المدى على مستقبل المشروع الوطني الاستقلالي، الذي تزعزعت اركانه الهشة على ايدي بعض اصحابه، ممن راهنوا على مشروع خاص بهم، كخطوة اولى على طريق مشروع اسلامي اوسع.
في فترة قصيرة من الزمن، بدت التطورات المصاحبة لما عرف باسم الربيع العربي، مواتية تماماً لتعزيز سلطة الامر الواقع في غزة، والدفع بها على دروب المشروع الاكبر في المنطقة، خصوصا بعد ان وصل الاخوان المسلمون في مصر الى سدة الحكم، الامر الذي أهّل غزة لأن تكون قاعدة اسناد اضافية للمشروع الإخواني المتحقق لتوه في المركز الرئيس، ولولا ان تجربة اخوان مصر كانت قصيرة، وادت الى ارتدادات مدمرة شملت القطاع الذي ازداد حصاراً عن ذي قبل، لكان الانقسام قد انتقل من طور الانفصال الى طور الاستقلال.
اليوم وبعد عشر سنوات عجاف من عمر ذلك الانقسام، الذي ظل متشبثاً بما انتزعه من شتات أرض مليئة بالبؤس وحطام سلطة حبيسة، يزداد عناداً ومكابرة وعزلة، تضيق عليه الارض بما رحبت، يفقد خياراته القليلة اصلاً، ويخسر تحالفاته المرتجلة تباعاً، ليس فقط لأن التطورات المحيطة اتت جميعها غير مواتية لأشرعة السفينة الممزقة، وانما ايضاً لافتقار اصحاب مشروع الامارة للقدرة على اجراء المراجعات في الوقت المناسب، وعقد التحالفات واقامة الشراكات اللازمة، وتجنب الدروب الانتحارية، لا سيما درب التحالف مع ايران مجدداً.
ازاء ذلك كله، فإن من المرجح ان يعاود كل من يطول به العمر الى الحديث ذاته في العشرية الثانية من زمن هذا الانقسام الذي لا رجعة عنه، خصوصا بعد ان ترسخ الانفصال على ارض الواقع، وصارت له مقومات وادوات، وشارف ذات مرة عتبة الاستقلال. اذ ستمضى هذه العملية البطيئة بقوة دفع متناقصة، وبإرادة اسرائيلية متعاظمة، حتى إن دخل قطاع غزة في ادوار اخرى من الخراب والانهيار الشامل، وغشي ذلك كل اوجه الحياة، بما في ذلك تلوث الماء وانقطاع الكهرباء وقلة الغذاء.
الغد 2017-06-16