حرب جديدة منتظرة في سوريا
توشك نهاية حرب «الإرهاب» القديمة في سوريا أن تؤسس لبداية حرب «الهيمنة» الجديدة بطرائق أخرى، فمع اقتراب قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة من طرد تنظيم «الدولة الإسلامية» من مدينة الرقة، بدأت المنافسة تشتد بين الفصائل المتناحرة في سبيل السيطرة على الأراضي الخاضعة لسيطرة التنظيم، وهي أراض واسعة تمتد من الرقة عبر وادي نهر الفرات إلى الحدود مع العراق والصحراء السورية في منطقة البادية، حيث تتسابق الميليشيات الشيعية التي يقودها قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري» الإيراني، لفرض سيطرتها على معابر الحدود السورية العراقية.
في ذات الوقت تعمل المليشيات الشيعية العراقية على استثمار طرد تنظيم «الدولة الإسلامية» من مدينة الموصل بالزحف باتجاه المنطقة الحدودية الغربية من العراق، الأمر الذي سوف يفضي إلى سيطرة القوات التي تقودها إيران على خطوط الإمداد عبر العراق التي تربط إيران بسوريا ولبنان، وعلى الطرف الآخر تسعى القوات الكردية والعربية السنية المدعومة من قبل الولايات المتحدة للسيطرة على المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» لضمان تحقيق طموحاتها بتأسيس كيانات خاصة بها في خريطة سوريا المستقبلية في ظل ديمومة حالة الفوضى والتفتيت الواقعي للدولة السورية.
الحرب المنتظرة في سوريا توشك أن تقع بآليات جديدة في ظل حروب الوكالة بين قوات الميليشيات التي تدعمها إيران من جهة، والقوات التي تدعمها أميركا فى المنطقة، ذلك أن هزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية» كأولوية لأميركا سوف تتبدل بعد طرد التنظيم من مناطق سيطرته كما ظهر جليا منذ وصول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض بالدمج بين مواجهة «داعش» و»إيران».
في ظل انحسار سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» في شمال سوريا من خلال «قوات سوريا الديمقراطية» بمكوناتها الأساسية الكردية المدعومة أميركيا عبر عملية «غضب الفرات»، وبفضل قوات عملية «درع الفرات» بمكوناتها العديدة من الجيش الحر وبعض الفصائل الإسلامية السنيّة المدعومة من تركيا، برزت أهمية الجبهة الجنوبية التي شهدت على مدى سنوات الأزمة السورية حالة من التوازن وضبط آليات الاشتباك بفضل عرفة التنسيق المشترك التي تضم مجموعة من دول أصدقاء سوريا وفي مقدمتهم أميركا والأردن، حيث نجحت جماعات المعارضة العربية السنية المسندة في الموزنة بين دحر تنظيم «الدولة الإسلامية» والتصدي للقوات الموالية للنظام، إلا أن تلك الدينامية سوف تتبدل مع انحسار «داعش» وتنامي حضور «المليشيات» الشيعية المدعومة من إيران والنظام السوري.
تنامت خلال الأشهر الأخيرة دينامية جديدة بصورة متسارعة في الجبهة الجنوبية، حيث برزت أدوار الميليشيات الشيعية التي تعمل تحت إشراف «فيلق القدس» الإيراني وقائده الجنرال قاسم سليماني، ففي مايو 2017 تمددت هذه الميليشيات لتقترب من معبر التنف الحدودي بين سوريا والعراق، وسيطرت على الجانب العراقي على معبر الوليد، رغم أن من طرد تنظيم «الدولة الإسلامية» من المناطق الصحراوية حول التنف مقاتلي المعارضة السورية المدعومين من الولايات المتحدة.
إرهاصات الحرب المستقبلية المنتظرة بين أميركا وإيران برزت في 18 أيار الماضي عندما ضربت المقاتلات الأميركية رتلا عسكريا للميليشيات الشيعية أثناء تقدمه نحو القاعدة الأميركية، والتي كانت تهدف إلى تطويق قوات التحالف وعزلها على الأرض، وبعد الحادثة بأيام، قامت القوات الأميركية بإسقاط طائرة إيرانية مسلحة بدون طيار قالت الولايات المتحدة أنها كانت تهاجم مقاتلين أميركيين وآخرين من قوات المعارضة في منطقة التنف، وقد برهنت تلك التحركات والحوادث على استعداد «فيلق القدس» لمواجهة نفوذ الولايات المتحدة في سوريا، كما ظهر جليا في 19 حزيران الماضي عندما أعلنت القوات الأميركية عن إسقاطها طائرة إيرانية بدون طيار بالقرب من قاعدة التنف.
لم تنقطع الرسائل والمواجهات الخشنة بين أميركا وإيران في سوريا في مناطق أخرى، فقد ظهرت ساحة جديدة للمعركة على طول وادي نهر الفرات، ففي 18 يونيو الماضي، هاجمت طائرة مقاتلة سورية قوات مدعومة من الولايات المتحدة جنوب مدينة الرقة، وهي منطقة تقوم القوات السورية فيها بدعم العمليات العسكرية التي يقودها «فيلق القدس»، الأمر الذي دفع القوات الجوية الأميركية إلى إسقاط الطائرة، وهو أمر استدعى بعث رسالة إيرانية شديدة، حيث شنت إيران هجمات بالصواريخ الباليستية على أهداف قالت أنها تابعة لتنظيم «الدولة الإسلامية» في الوادي، ومن ضمنه مدينة دير الزور، معللة ذلك بالانتقام من الهجمات التي نفذها التنظيم على طهران، لكن الحقيقة أن الهجمات الصاروخية كانت تستهدف جميع خصومها، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة وحلفاؤها.
على مدى الأشهر الأخيرة باتت الرسائل بين أميركا وإيران أكثر عدوانية وسخونة، وبدا واضخا أن القوات المتعددة من المليشيات الشيعيةالتي تقودها إيران تحت قيادة سليماني، سوف تصبح التحدي الأخطر والتهديد المستقبلي الأكبر لقوات الجيش الأميركي وحلفائه ومصالح الولايات المتحدة في سوريا، إذ لم يعد خافيا على أحد أن إيران تتبنى استراتيجية تركّز على إقامة جسر بري يصل إلى سوريا عبر الأراضي العراقية، الأمر الذي سيقود إلى نشوب صدام حتمي مع قوات المعارضة السنّية المدعومة من الولايات المتحدة.
برهنت مسارات الأزمة في سوريا على أن الولايات المتحدة كانت تفتقر إلى استراتيجية شاملة وواضحة في التعامل مع تطورات الصراع السوري، الذي تحول من حركة احتجاج محلي إلى صراع إقليمي ثم دولي، ذلك أن استراتيجية الولايات المتحدة ركزت جهودها على هزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية» بإخراجه من مناطق سيطرته المكانية المدينية الحضرية، دون الالتفات إلى تمدد «فيلق القدس» الإيراني والمليشيات الشيعية التابعة له في مناطق عدة، رغم أن الاستراتيجية الإيرانية كانت ترتكز منذ بداية الأزمة على هزيمة كافة قوات المعارضة المسلحة التي تدعمها الولايات المتحدة.
خلاصة القول أن تعقيدات الاستراتيجية الأميركية في التعامل مع قوات «فيلق القدس» والمليشيات الشيعية التابعة له، تتجلى بوضوح عبر محطات معقدة، سواء من خلال التعامل الموقف الروسي، الذي يساند الميليشيات الشيعية التي ترعاها إيران في المنطقة، وهو أمر يجعل من السياسة الأميركية أكثر تقييدا في التعامل مع النفوذ الإيراني في ظل توتر العلاقات الأميركية الروسية والإعلان عن وقف التنسيق بين قوات البلدين، كما يتجلى من خلال تطمينات الولايات المتحدة لحلفائها من قوات المعارضة السورية، وكذلك الأتراك بأن تركة تنظيم «الدولة الإسلامية» سوف يتولاها العرب السنّة، فضلا عن تطمين تركيا باستعادة السلاح من القوات الحليفة الكردية بعد المعركة، وهي وعود تنظوي على اختلالات وتناقضات تحول دون تقيص النفوذ الإيراني، ويؤشر على ولادة حرب أخرى بطرائق جديدة.
الرأي 2017-07-03