كي لا نخالف - نحن المسلمين - الطبيعة وسنة الحياة!
ما زلنا في «العالم الإسلامي»، منذ قرون عديدة، نطرح ونواجه سؤالا مركبا مهما وهو: لماذا تأخرنا وتقدم الغرب؟ وكيف ننهض مجددا من كبوتنا وسباتنا الحضاري الطويل بشكل يواكب التحديات العالمية الحديثة؟ وكيف يمكن التعامل مع هذه التحديات؟؟. وفي محاولة متواضعة وسريعة للإجابة، نقول:
نعم كنا ننعم بازدهار حضاري وماض كان زاهيا؛ سبقنا إليه الرومان والإغريق والفرس والصينيون وحضارات كثيرة أخرى سادت ثم بادت، ولكن أن نبقى أسرى ذاك الماضي وتلك الحضارة ومخرجاتها، فإن ذلك جزء أساس من العائق الكبير الذي يقف حائلا دون ممارستنا ومنافستنا الحضارية في «عالم اليوم» الذي لا يعترف إلا بالمستقبل والنظر إلى الأمام.
لا يخفى على أحد إنجازاتنا العلمية، وتحديدا في الجبر والطب والكيمياء، التي يبدو أنها تلاشت منذ العصور الوسطى!، فنحن قد عشنا منذئذ ركودا حضاريا مزمنا ودورانا في حلقتي «التاريخ» و»الحضارة الإسلامية» المفرغتين بسرعة مذهلة، لا نترقب فيه إلا قيام الساعة الوشيك، بحيث أصبح كل همنا منصبا على رصد علاماتها والإستعداد لنهاية العالم..!، وبالتالي أصبحنا عاجزين عن إحياء هذه الحضارة وتطويرها لأننا في الأساس كنا قد مزقنا أوردة عناصر تغذيتها التاريخية.
نحن ليس فقط لا نزال مكبلين بسلاسل الماضي السحيق، بل نخطط مع سبق الإصرار والترصد للإستمرار في الترفل في «نعمائه»، غير عابئين باستحقاقات المستقبل. ويبدو أننا قد «عقدنا العزم» على البقاء عاجزين عن التحرك ولو «مليميترا حضاريا» واحدا للأمام!، وأصبح «لسان حالنا»: لماذا نتعب أنفسنا وأذهاننا في مواضيع لن نستطيع بلوغها لا بشق الانفس ولا براحتها، طالما أن الله سخر لنا نتاجا ووسائل وأدوات نقطفها من بساتين الغرب (رغم انه «كافر»!) الذي يسبقنا ب»سنوات حضارية» ضوئية، ونحن بالكاد نحبوا في أثره؟!، فلنأخذ ما يروق لنا من هذه الإنجازات، بما يخدم نزواتنا وسياساتنا وغاياتنا ومصالحنا وأهدافنا ومرامينا الآنية! ولننظر -على سبيل المثال- إلى الانترنت المخترع أصلا لضمان استمرار تدفق المعلومات وتبادلها حول العالم لخير الوطن والمواطن، وإلى إستخداماته عندنا - من قبل بعضنا المؤثر - في تصفح المواقع التافهة، وفي إنشاء عديد المواقع الأصولية والإرهابية المتشددة وغيرها!
في المقابل، هذا الغرب الذي لم يبق أسيرا لماضيه؛ لم يكن لينجز قفزاته الحضارية الحديثة بمخرجاتها الفكرية والمادية، لو لم يعتق نفسه من إسار أفكار حضارة الإغريق والرومان وفلاسفتها وعلماءها ومفكريها ومن «مسيحية» العصور الوسطى وكنيستها، وعمق الهوّة بين ما تقرره من معتقدات وشرائع، وبين ما توصل إليه العقل البشري من حقائق علمية تخدم الحضارة الإنسانية!، ولو لم ينجز الغرب ذلك الإنعتاق، لما أدرك أن الحقيقة لم تعد مرتبطة بالضرورة بهذه الأفكار وأولئك الفلاسفة، أو حكرا عليهم.
إن استلهام الغرب لهذه الأفكار «التاريخية» –إن وجد- كان بمثابة حافز يسعى به إلى التجاوز والبناء والإنطلاق لا إلى التقليد الأعمى، أو، التشبه، بعكس استلهاماتنا التي عادة ما تأتي على شكل «نماذج» لا يأتيها الباطل من خلفها ولا من بين أيديها!، ولولا قطيعة الغرب تلك مع الماضي لما آلوا إلى ما آلوا إليه، ولما أدى ذلك إلى دوران وتسارع عجلة التغيير والتقدم لديهم.
ما العمل إذا؟..وإلام سنبقى أسرى لأفكار الأموات من «جهابذتنا»..؟؟
طالما ظللنا نحتمي بقراءة قاصرة وحولاء للدين مرتدين عباءتها الفضفاضة بمفاهيم قوامها التقليدي المحافظ المعتمد على آراء فقهاء بائدة كتبوا لزمنهم وليس لزمننا وأعطوا لنفسهم حق تغييب العقول، وطالما ظللنا نتفيأ ظل تاريخنا السليب والبكاء على أطلاله والذي ما عاد فاعلا اليوم، وطالما نحن لم «..نفقه..» واقع الأمة الحقيقي ولم نستطع التأقلم مع المحسوس والمشاهد، فإننا لن نكون عنصرا فاعلا في ركب الحضارة الإنسانية ولا في عجلة التقدم. فمأزقنا التاريخي والحضاري يكمن، في جزء أصيل منه، في عجزنا الإنفكاك عن أسر الماضي البعيد ونتاجه الفكري ورجالاته الذي عفى عليها الزمان. وهو الأمر الذي حولنا لمستهلكين لمنتجات الحضارة الحديثة، ومجترين لأفكار من الماضي أصبحت «خارج التغطية» بعد أن توقفت عند لحظة معينة من الزمان.
خروجنا من هذا المأزق لا يكون إلا بإحداث نوع من الإنفكاك المعرفي شبه الكامل مع ماضينا، بعد استلهامنا من أفكاره ما يحفزنا إلى التجاوز والبناء والإنطلاق والتجديد لا إلى التقليد الأعمى، أو، التشبه، لا إستلهام «نموذج»! ليس هو، في حقيقة الأمر، «نموذج». وهنا نعتذر سلفا عن اقتباس مضمونه صحيح رغم انه صدر عن سيئ السمعة والصيت رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير حين قال: «..إنني فخور بماضي بلادي، ولكنني لا أريد العيش فيه». وكما قال ونستون تشرشل: «..إن نحن فتحنا خصاما بين الماضي والحاضر؛ حتما سنجد أننا خسرنا المستقبل».
هكذا ساد العقل هناك، وهكذا انبثق المستقبل عندهم. العقل والعمل هما عنصرا «السبيل الوحيد» للفوز في عالم يقوم على منطق التنافس، ولا حتميات -لا راد لها- في التاريخ خارج إطار تضافر العقل والفعل، وإلا فإن البديل هو الضياع والإندثار. فالتاريخ: «ليس قطاراً يسير على قضبان حديدية»، كما يقول ألفن توفلر، وهو في النهاية لا يرحم المتقاعسين والمتواكلين. وها نحن نعود إلى مقولة معبرة لفيلسوفنا الكبير زكي نجيب محمود: «إني لأقولها صريحة واضحة؛ إما أن نعيش عصرنا بفكره ومشكلاته، وإما أن نرفضه ونوصد دونه الأبواب لنعيش تراثنا، نحن في ذلك أحرار، ولكننا لا نملك الحرية في أن نوحد بين الفكرين».
القراءة في دفتر الماضي، ضياع للحاضر، وتمزيق للجهد، ونسف للساعة الراهنة. انتهى الأمر, قضيت المسألة, إذ لا طائل من تشريح جثة الزمان وإعادة عجلة التاريخ. لذلك، دعونا نغادر سجن/ شبح الماضي، فنحن لا نستطيع إعادة النهر إلى مصبه ولا الشمس إلى مطلعها، ولا الطفل إلى بطن أمه. فالريح تهب إلى الأمام، والماء ينحدر إلى الأمام، والقافلة تسير إلى الأمام، فلماذا نخالف الطبيعة وسنة الحياة؟، ولماذا لا يكون ماضينا هو نفسه الحافز الذي غير فكر أسلافنا ونقلهم من ظلمات وغشاوة التقليد الأعمى إلى نور العقل والتطور والحضارة وآفاق المستقبل، أولسنا أمة «.. إقرأ ..»..؟؟!
الراي 2017-07-07