موت السياسة بعد موت الأيديولوجيا
ما نزال نعيش مرحلة نهاية القرن العشرين سياسيا مع إرهاصات أولية لظواهر قد تتحول الى مسار، لكن من المبكر الخروج باستخلاصات، وثمة من الغموض والالتباس ما يمنع المغامرة بصياغة توقعات جدية، ولا أعرف أو لم تقع يدي على دراسات مستقبلية بهذا المعنى.
القرن العشرون في معظمه كان قرن الأيديولوجيا بامتياز، قرن الروايات الشمولية الكبرى، بدأ بالثورة الشيوعية ومرّ بالفاشية والنازية وشهد حربين عالميتين وحروب تحرر وطنية واستقر على حرب باردة قسمت العالم بين معسكريين يتصارعان الأيديولوجيا وعسكريا وسياسيا واقتصاديا حول مستقبل العالم، وانتهى بانهيار المعسكر الشرقي بصورة حمّست منظرا أميركيا (فوكوياما) أن يعلن نهاية التاريخ، والمقصود إذا كان التاريخ هو صراع البدائل وتعاقب أشكال الأنظمة السياسية الاقتصادية الاجتماعية، فإن انتصار الليبرالية النهائي يعني نهاية التاريخ بهذا المعنى. ومقولة الرجل مغامرة نظرية وفرضية طارئة حصلت على ضجّة تتجاوز قيمتها لكنها في جانب تلتقي مع توافق المنظرين على نهاية عصر السرديات الكبرى أو العقائدية السياسية، ولا يغيّر من هذه الحقيقة آخر موجة عقائدية سياسية مثلتها التيارات الإسلامية وبعض تعابيرها العنيفة وآخرها الداعشية فهي تشبه الهزة الارتدادية اللاحقة والخاتمة لحقبة آفلة.
في غياب الصراع الأيديولوجي بقي فقط نشر الديمقراطية السياسية إلى كل مكان لم تصله بعد، وبينها طبعا منطقتنا العربية التي تضم عددا من أنظمة الاستبداد السياسي. وحملت ثورات الربيع العربي طموح الشعوب للحرية والديمقراطية والعيش الكريم، لكن الطموح الذي حرك الجماهير ابتداء انسحق ما بين عنف الأنظمة المنهارة وعنف التطرف الديني. مع ذلك ثمة نماذج نجت من الكارثة وتعيش حالة انتقالية متحركة، والمثال الذي في البال بالطبع هو النموذج الغربي التقليدي للتعددية الحزبية والبرلمانية في التداول على السلطة الحكومية. وهذا النموذج كان يتجه الى ما يفترض أنه الصيغة المثالية للثنائية القطبية أكان على شكل حزبين أو ائتلافين رئيسيين يتناوبان على السلطة، أو إذا اضطرا يتشاركان فيها. ومع غياب بل انتفاء الاحتمال لأي بديل جذري فإن الصراع السياسي استمر بنفس النمط المألوف بين قطبين تفليديين؛ يسار ويمين، محافظين وإصلاحيين.. إلخ، وهو النموذج الذي يبدو لنا وكأنه يدخل في مأزق.
كما تحدثنا في مقالات سابقة، فقد أظهرت الانتخابات الأميركية ثم الفرنسية أن الانقسام السياسي – الحزبي التقليدي أصبح في مأزق والجمهور لم يعد يراهن على الأحزاب التقليدية والتاريخية التي تداولت على السلطة من اليمين واليسار، لذلك تتحقق ظاهرة أن يأتي شخص من خارج الحزبين الرئيسيين ويحقق شخصيا اختراقا مذهلا. والجديد الذي أفكر فيه أن ثمة ما هو أكثر من مأزق الأحزاب التقليدية، أنه مأزق السياسة بوجه عام! لقد بقيت السياسة وحدها بدون غطاء أو مظلة عليا تلك التي تمثلها الأيديولوجيا أو الرؤية المثالية لمستقبل المجتمع أو البشرية والمنافسة باتت تدور حول السياسات والبرامج والمواقف، وهي في الانتخابات وفي الممارسة مراوغة للجمهور ولأصحابها، وفي نهاية المطاف تبدو السياسة مجرد غطاء للمنافسة على السلطة والديمقراطية آلية لتقنين هذه المنافسة. وإذا راقبنا سير الانتخابات في الغرب عموما يمكن ملاحظة انخفاض المنسوب السياسي وتقدم الانطباعية الشعبوية، وأن الحزب لم يعد يقدم بكل أبهة خطابا سياسيا منحازا لرؤية وبرنامج متكامل وضعه قادة ومفكرون بل حملة تسويقية يمكن إسنادها لأي شركة متخصصة.
والمتأمل في أسلوب ترامب في السياسة الخارجية يلمس كيف أنه يخرج عن كل المعايير السياسية، وربما يمكن فهمه أفضل من خلال مفتاح تفكير من المجال الذي عمل فيه أي البزنس وهو حتى الساعة يحقق نجاحا على ما نرى. وللحديث بقية.
الغد 2017-07-17