المقاومة المستدامة
كما فشلتْ – أولاً - جميع الجيوش العربية في حرب سنة 1948 في فلسطين، ونجحت إسرائيل في البقاء بعدها، فشلت ثانية في حرب 1967، واستولت إسرائيل على بقية فلسطين، وفشلت – ثالثاً - جميع المقاومات الفلسطينية المسلحة في تحرير فلسطين المغتصبة بعد تلك الحربين وما تزال.
أسباب فشل العرب في الحربين معروفة للقاصي والداني، فلا ضرورة لقراءة سورة يوسف على يعقوب. أما أسباب فشل المقاومات الفلسطينية المسلحة – بدءاً من العمل الفدائي وانتهاء بتفجيرات حماس - ففيها قولان (هما لي) وأعني بهما مخالفتها لقانوني المقاومة المستدامة وهي المقاومة التي يستطيع أهلها الاستمرار فيها ذاتياً حتى تحقيق الهدف وهو هنا تحرير فلسطين بالكامل من الاغتصاب الإسرائيلي.
والقولان أو القانونان هما: -
• لا تتبنى مقاومة لا تستطيع الاستمرار فيها حتى النهاية أي تحقيق الانتصار على العدو.
• ولا تستخدم أسلوباً في المقاومة عدوك أقدر به منك عليك، ومنك عليه.
لقد فشلت المقاومة الفلسطينية المسلحة حسب القانونين، لأنها ظنت أن المقاومة المسلحة كما في فيتنام أو الجزائر وغيرهما من المقاومات التي انتصرت على العدو، يمكن أن تستخدم في فلسطين وتنجح.
جماعاتنا وفصائلنا درست المقاومات المسلحة في البلدان الأخرى وبخاصة في الجزائر وفيتنام منفصلة عن جغرافياتها، والجغرافيا كما يقول نابليون بونابرت هي القدر، أو القسمة والنصيب كما نقول في حالات الزواج، فجغرافية فلسطين وبخاصة جغرافية الضفة الغربية وغزة تسهل للعدو ولا تصعب ملاحقة المقاومة المسلحة بالمتر المربع فلا تستطيع الاستمرار حتى النهاية. كما لا تحظى المقاومة الفلسطينية المسلحة بدعمٍ متواصل من البلدان العربية المحيطة بها، لأنها لا تقوى على التصدي لإسرائيل ما لم تكن شعوبها مستعدة لتحمل الدمار الشامل. لكن هل كان ذلك ممكناً بعدما تحولت القضية من عربية تماماً بالتدخل العربي السياسي والدبلوماسي 1936، والعسكري سنة 1948، ثم سنة 1967، إلى قضية فلسطينية؟ منظمة التحرير الفلسطينية بدل منظمة تحرير فلسطين مثلاً.
وتأكد فشل المقاومة الفلسطينية بمخالفتها للقانون الثاني، أي باستخدامها لأسلوب التفجيرات "الاستشهادية" بناس العدو المصادفين، وهو ما تستطيع إسرائيل بالقيام بمثله وأكبر منه دون التضحية بأحد. ولكن المقاومة الفلسطينية بالتفجيرات ومثلها بالمقاومة المبتكرة بالطعن والدهس، كانت تراهن - ضمناً وما تزال - على سمو أخلاق العدو وأنه لن يلجأ إلى الرد عليها بالمثل. لقد استغل العدو - بدلاً من ذلك - التفجيرات لإلصاق تهمة الإرهاب بالمقاومة الفلسطينية وبخاصة بعد تفجيرات أيلول 2001 وما تقوم به القاعدة ثم طالبان وداعش من تفجيرات بالمدنيين المصادفين المسلمين وغير المسلمين.
كما وفرت التفجيرات لإسرائيل الفرصة التي كانت تنتظرها وتتوق إليها وتتمناها لإقامة الأسوار والفواصل والحواجز والاستيطان، والتي جعلت العصفور الفلسطيني لا يستطيع التحليق فوقها. ها هي حماس والجهاد وغيرهما عاجزة عن مواصلة التفجيرات. وهكذا صارت غزة محاصرة براً وبحراً وجواً وتموت بطيئاً بعد أن أسرت بتفجيراتها وعملياتها القلوب المعذبة وفازت بالشعبية السياسية والانتخابية وحكم غزة. نعم، أدت ردود فعل إسرائيل على تفجيرات إلى الابتكار بالقبة الحديدية المضادة للصواريخ، وإلى الكشف عن الأنفاق بوسائل مبتكرة.
بعد فشل المقاومة الفلسطينية المسلحة المقاتلة من الخارج، انطلق الشعب الفلسطيني في مقاومة سلمية باهرة (بالقوة الناعمة) نالت إعجاب العالم، وهزت إسرائيل وعرّتها، وبدلاً من ترك الشعب يواصلها أجهضتها القيادة الفلسطينية باتفاقية اوسلو والسلطة والتنسيق الأمني، ما يجعل أي مقاومة وحتى السلمية منها الآن غير منتجة لأنها تعني مقاومة السلطة في الضفة وحماس في غزة لا مقاومة إسرائيل. ولكن الأمل يبقى قائماً وقوياً بصمود ومقاومة الشريحة الفلسطينية في فلسطين المغتصبة سنة 1948، وتبقى القدس هي الشرارة أو الشعلة الموحِدة لشعب فلسطين في كل مكان.
لو كان لدى "القيادة الفلسطينية" منذ وعد بلفور إلى اليوم تفكير استراتيجي يناسب وضع هذا الشعب الفريد في خصوصيته الجغرافية، لتبنت المقاومة السلمية على طول ولاخترقت أحشاء العدو وفازت بالحرية والاستقلال، فالمقاومة السلمية ينبوعية ولا تعطل الحياة اليومية، أي لا تنضب لكنها تجعل العدو ينضب وتتعطل حياته، وكلما كان أعنف بالتعامل معها كانت النتيجة أفضل وتحقيق الهدف أسرع، ولما نزف هذا الدم الزكي مجانياً.
لقد تظاهر أربعماية ألف يهودي ضد حكومة إسرائيل على أثر مذبحة صبرا وشاتيلا سنة 1982 لكنهم لم يعودوا يفعلون بعد حوادث التفجير والطعن والدهس. قال أحد المفكرين الصهاينة تعليقاً على عنف إسرائيل في أثناء انتفاضة الحجارة: "لن نغفر لكم أيها الفلسطينيون تحويلنا من ضحايا إلى قتلة"، لكننا حولناهم بالتفجيرات إلى ضحايا.
لا أقوال أقوالي هذه على منوال الحكمة بأثر رجعي، فقد قلته مراراً وتكراراً وكنت أدين كل تفجير أعمى بالناس المصادفين أينما وقع.
على الرغم من وضوح هذه الحقائق سوف ينبري لك غداً من يتهمك بالاستسلام ليس دفاعاً عن القضية الفلسطينية وإنما دفاع عن آيدلوجيتهم المسلحة الفاشلة.
الغد 2017-07-31