التغيير بالأمر الواقع
سادت فرضية الوضع القائم عقودا طويلة في إدارة الصراع في الشرق الأوسط، وتحديدا ما يرتبط بالصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، ومنذ نحو عقد ونصف عقد ازداد الإمعان في فرض صيغة الأمر الواقع؛ بمعنى غابت السياسة، في الوقت الذي انسحبت فيه الوصفة الفلسطينية على العديد من الملفات الصراعية الجديدة التي باتت تتوالى منذ التغيير الذي حدث في العراق بقوة الاحتلال في 2003، وبسهولة يلاحظ المتابع أن آلية الأمر الواقع أخذت شكلها النهائي في فرض خيار القوة الناعم الذي يغير الوقائع بدون ضجيج، وكأن آليات ذاتية تعمل بذاتها؛ في نهاية اليوم نصل إلى نتيجة مفادها: "هذا أمر واقع" أو هذه نتائج على الأرض.
هذه الفرضية تحولت عمليا إلى إداة لإنتاج السحر السياسي في تغيير الوقائع بدون أي إثمان سياسية أو استراتيجية، وما يحصل اليوم في الصراع حول الأماكن الدينية الإسلامية والمسيحية في مدينة القدس أكبر دليل على هذا المنهج. نلاحظ كيف يتحول التراكم الكمي الناعم إلى نقطة التغير الكيفي التي لا بد منها، ونقاط التغير الكيفي يبدو أنها اصبحت ناضجة في القدس وفي الضفة الغربية بوضوح.
ما يحدث هو اللعبة الساحرة للأمر الواقع؛ فالوقائع على الأرض هي التي تحدد لغة السياسة واتجاهاتها، وهو الأمر الذي ذهب إليه التقدير الاستراتيجي لمركز الأمن القومي الإسرائيلي الصادر عن جامعة تل أبيب قبل عامين، والذي قلل من فرص أي اختراق حقيقي بالعمل السياسي لسنوات طويلة قادمة. وهذا ما يحدث بالفعل، بل ردد هذا التقرير أن شروط التسوية غير ناضجة وتحتاج إلى أجيال، وهو ما يفسره تماما منهج إدارة الأمر الواقع واستمرار الاستيطان في الأراضي المحتلة، حيث تسيطر الأولوية الإيرانية والسورية على أطروحات الخارجية الإسرائيلية، في حين لا يتوقف رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو عن التشكك في أي احتمال للتسوية، وهو الخطاب الذي يردده وزير دفاعه أفيغدور ليبرمان، وهو ذات موقف الوزير الذي سبقه موشي يعلون؛ فالنخبة السياسية الإسرائيلية لديها خطاب سياسي معلن أن لا مجال للتسوية قبل أجيال.
كان مبدأ إدارة الصراع يقتضي استمرار الأوضاع القائمة، بمعنى أن لا حرب تلوح في الأفق ولا تسوية قادمة، ليبقى كل شيء على حاله. هذه الوضعية باتت مطلبا إسرائيليا ملحا، وأحد أبرز ملامح استراتيجيتها في إدارة التوسع والضم وتغيير الوقائع على الأرض. علينا أن نتصور أن الإسرائيليين يغيرون كل يوم مجرد حجر واحد من مكانه في القدس الشرقية، ماذا ستكون المحصلة؟ وما يحدث بالطبع أكثر من ذلك؛ حيث تتصاعد عملية تهويد القدس الشرقية والمسجد الأقصى خلال السنوات الخمس الأخيرة بوتيرة عالية غير مسبوقة، وتستمر عملية الصعود السياسي والقضائي والإعلامي لفكرة "الهيكل" في المنظومة السياسية الإسرائيلية، وبعد أن كان مؤيدو الفكرة مجرد أقلية في مطلع تسعينيات القرن الماضي، أصبحوا اليوم قوة سياسية تسهم في تشكيل الحكومات، فيما تزداد المخاطر التي تهدد ديمغرافية المدينة، من خلال سياسات التهجير الجماعي والإبعاد والاعتقال، إلى جانب صعوبة الظروف الاقتصادية للمقدسيين، وتزايد نسب الفقر في أوساطهم.
ثمة مخاض سياسي حقيقي، وصراع أجندات إقليمي يدور وسط سيناريوهات مستقبلية تزرع بذورها هنا وهناك، ولكن ما سيحسم مصير هذه المدينة المعذبة فقط الوقائع على الأرض، لذا تبدو الحركة على الأرض هي الأخطر، من يستطيع أن يسجل أهدافاً أكثر، بما يملك من أوراق، كما هي الحال على الطريقة الإسرائيلية في تغيير الوقائع على الأرض، حتى لا يبقى شيء للتفاوض عليه.
الغد 2017-07-31