مَن «يفوز» بالكعكة الليبية.. الفرنسيون أم الطليان؟
في غمرة الهجمة الاستعمارية الغربية المُتجدِّدة والضارية (هل توقفت أصلاً؟) على المنطقة العربية، والتي تأخذ شكلاً مختلفاً عمّا كانت الحال عليه قبل قرن من الزمان، عندما بدأت الامبراطورية العثمانية (الاستعمارية أيضاً.. كما يجب التذكير) بالتفكك والإنهيار وبات الفرنسيون والانجليز يتسابقون للسيطرة على بلاد العرب، يحدوهم الأمل بأن يجد وعد بلفور طريقه الى التنفيذ كي تكتمل خطة زرع الشرطي الصهيوني في قلب الوطن العربي والحؤول دون وحدته الجغرافية ونهضته القومية والثقافية والاجتماعية.. وهو ما استمر الشغل الاستعماري عليه الى ان نجح الطرفان الفرنسي وخصوصاً الانجليزي، في إقامة الكيان الصهيوني الذي احتكر لنفسه القوة العسكرية المهيمنة وسط ضعف عربي غير مسبوق وانقسام مرشح للتحول الى حروب عربية بينية بكل انواع «الاسلحة»، على النحو الذي نشهده في اكثر من ساحة عربية وخصوصاً في انهيار التحالفات وسقوط الاتفاقات وشيوع استراتيجية الاستنجاد بالمستعمِر الاجنبي وسيطاً وحامياً عبر قواعده العسكرية ودائماً في ضبط «منسوب» الصراعات والخلافات وايصالها الى المستوى الذي يضمن مصالحه ويُبقي على هيمنته وعلو كعبه.
نقول: في غمرة هذه الاجواء الكارثية التي تُنذِر باندثار العرب وسقوط مفهوم التضامن القومي وانهيار ما سمي ذات يوم بالأمن القومي العربي، تبدو الاحداث المتسارعة في ليبيا مثيرة للانتباه ليس فقط في ان الحرب والفوضى والفلتان الأمني ووجود ثلاث حكومات تتنازع السلطة والثروة والتحكم برقاب الليبيين منذ ان نجح المستعمرون الغربيون في اطاحة القذافي وترك ليبيا وشعبها لمصيرهم الراهن البائس، بل وأيضاً في ان الصراع بين المستعمِرين الغربيين وخصوصاً فرنسا وايطاليا قد أخذ شكله العلني، وبات الطرفان يحيكان المؤامرات ويرسمان الخطط ويتوسلان دعم «الاتحاد الاوروبي» كي يفوز أحدهما بالكعكة الليبية، التي وإن بدت للبعض انها «مسمومة» كون مسألة ضبط الميليشيات والسيطرة او إقناع امراء الحرب في بنغازي وطرابلس ومصراتة باللجوء الى الانتخابات لحل الخلافات وتقديم منطق الحوار والسياسة على منطق الحرب والفوضى، تبدو صعبة وربما مستحيلة، بعد ان بات الافرقاء الليبيون في عهدة ورعاية ودعم عواصم اقليمية ودولية تريد ان تتخذ من الهضبة الليبية «منصّة» لتعزيز نفوذها او تقليم اظافر منافسيها، او السيطرة على حقول النفط الليبية التي ما تزال تضخّ بترولها الى الاسواق الاوروبية رغم كل الفوضى التي تضرِب ليبيا.
الرد الايطالي «السريع» والمدعوم من الاتحاد الاوروبي على «اعلان باريس» ذي النقاط العشر، الذي تم برعاية الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، خلط اوراق الأزمة الليبية وعصف على نحو ربما يكون «نهائياً» بالتفاؤل النسبي الذي بثّه الفرنسيون بعد لقاء حفتر والسراج في باريس اواخر الشهر الماضي, حيث لم تتردد روما (المُستعمِرة السابقة لليبيا) في إبداء امتعاضها بل واحتجاجها على «التدخل» الفرنسي في ليبيا، كون ذلك حصراً وكما هي القاعدة الاستعمارية التي استمر العمل بها بعد منتصف القرن الماضي، التي تقول: أن الدول المستعمِرة السابقة هي صاحبة «الحق الحصري» في شؤون مستعمراتِها السابقة، الى ان بدأت هذه القاعدة بالاهتزاز والتجاوز عليها وبخاصة من قبل الاميركيين الذين لا يُقيمون وزناً كبيراً للندن وباريس، فراحوا يطاردونهم في اكثر من قارة وبخاصة في افريقيا، حيث بدأ النفوذ الفرنسي (والبريطاني) بالإنحسار التدريجي لصالح واشنطن، التي تطارد أيضاً النفوذ الصيني المتنامي في افريقيا، وتُعرقِل مشروعات ومساعدات بيجين التنموية في القارة السوداء.
دراما وصول القطع البحرية الايطالية الى السواحل الليبية وبخاصة طرابلس، أعادت الى السطح الخلافات بين حفتر والسراج، حيث اصابع الاتهام تتوجه للأخير كونه «لاذ» بروما كي تحول دون سقوط طرابلس في يد قوات حفتر، رغم ان «استنجاد» السراج بايطاليا تم تمويهه بحكاية مكافحة الهجرة غير المشروعة التي ليبيا مسرحها، وهو أمر بدا كأنه رد من فايز السراج على المكانة والدور الجديد لحفتر، والذي «كرّسه» اتفاق النقاط العشر في باريس حيث وصَفَ ماكرون السراج بالشرعية السياسية، فيما خلع على الجنرال حفتر.. المشروعية العسكرية.
تصريحات السراج الاخيرة التي يراد من خلالها استدراك الخطأ الذي وقع فيه واغضب عواصم اقليمية وخصوصاً القاهرة باستدعائه البحرية الايطالية، لا تُغير كثيراً في ما بات عليه المشهد الليبي وبخاصة بعد تهديد الجنرال حفتر بضرب اي قطعة بحرية عسكرية اجنبية تدخل المياه الاقليمية الليبية، رغم تقليل روما من أهمية هذه التهديدات، ورأت فيها «مجرد دعاية» ولا تمثل اي خطر حقيقي.
ان يخرج السراج على الليبيين في مؤتمر صحفي مع المبعوث الدولي الجديد غسان سلامة، ليعتبر ان الاتفاق السياسي هو اساس اي حوار في ليبيا، داعياً في الوقت نفسه الى «استكمال» ما تم التوصل اليه وعدم العودة الى الوراء. مُطالباً «كل» الاطراف السياسية الارتفاع بمستوى المسؤولية الوطنية، لا يعدو كونه مجرد كلام استدراكي يخفي شعوراً بالهزيمة أو الحرج وفداحة الخطأ الذي ارتكبه، بعد تنكُّرِه لإعلان باريس، وإعتقاده ان روما قادرة على إنقاذه، ما عكس سذاجته السياسية وسوء قراءة مستشاريه للمشهد الليبي وموازين القوى في المنطقة واوروبا ايضاً، ناهيك عن ان «الملف الليبي» بات موضع صراع بين باريس وروما واستحقاق الانتخابات خصوصاً قد يكون هو الآخر الضحية الاولى، لسذاجة السراج السياسية ورهانه على الطليان، دون ان يعني ذلك أن الفرنسيين «أفضل» من الطليان أو أقل عدوانية وجشعاً منهم.
الراي 2017-08-07