عن الهيمنة على الدنيا والدين معاً
فاجأ الرئيس التونسي (السبسي) شعبه والمسلمين في اليوم الوطني للمرأة، بالدعوة لمساواة المرأة والرجل في الإرث، والسماح للمسلمة بالزواج من غير المسلم.
لسنا في صدد الدخول في متاهة تفنيد هذا الرأي؛ لا من الناحية الدينية ولا المنطقية، فقد كتب فيها الكثير الكثير، بخاصة مسألة الميراث التي تتشعب كثيرا، وتأتي في سياق منظومة اجتماعية شرعية متكاملة (في حالات كثيرة تأخذ المرأة من الميراث أكثر من الرجال).
ليست هذه المرة الأولى التي يتدخل فيها سياسيون في شؤون الدين والفتوى، فقد رأينا من ذلك الكثير، كما في دعوة أحدهم لرفض الطلاق الشفوي، أو فرض خطب مكتوبة موحّدة في المساجد، وسوى ذلك من ممارسات في دول شتى.
المصيبة أن ذلك يحدث في ظل شعارات عن العلمانية، وكأن العلمانية العربية لم تعد تعني فصل الدين عن الدولة، بل تعني هيمنة الدولة على الدنيا والدين في آن؛ ليس عبر السيطرة على المؤسسات الدينية أو توجيهها فحسب، بل في التدخل في شؤون الفتوى أيضا، وفرض الآراء التي يرفضها المجتمع بسطوة القانون.
ما شأن السياسي بميرات المرأة، وهي قضية ثابتة في كتاب الله، أو في الطلاق وشؤونه، وهي قضية دينية أيضا؟ لماذا يتدخل في هذا الشأن، وقد سيطر على القوانين بكل أشكالها، ولم يتبق سوى قوانين الأحوال الشخصية؟!
حتى بالمنطق الديمقراطي أو العلماني الكامل.. هل يجوز تغيير مسألة بهذا المستوى من الرسوخ على هذا النحو؟ ألا يستحق الأمر أن يُطرح في استفتاء؟! مع أننا ضد ذلك من حيث المبدأ، فضلا عن أن أحدا لم يطالب به، لأن المسائل التي تطرح في الاستفتاءات هي التي تتعرض لجدل كبير في المجتمعات.
هل ظهرت في المجتمع التونسي، فضلا عن المجتمعات العربية والإسلامية الأخرى دعوات ذات قيمة لمساواة الرجل والمرأة في الإرث مثلا، أو تشريع زواج المسلمة من غير المسلم؟! وهل احتج أحد على مسألة الطلاق الشفوي؟!
لم يحدث شيء من ذلك، ولو حدث، وأصبح صوت أولئك واسعا، بالمعنى الحقيقي، وليس بقوة الإعلام الموجّه، فعندئذ يمكن بمنطق العلمانية والديمقراطية أن يبرروا الدعوة إلى استفتاء، أما التعامل مع قضايا محسومة بهذه الخفة، فلا يمكن أن يسكت عنه المجتمع.
لا ينتبه كثيرون إلى أن مثل هذه الدعوات، بل مثل هذا المنطق برمته إنما يعزز مسارات التطرف، ويحارب مسارات الاعتدال، أو يقلل من قيمة منطقها، حيث سيرى كثيرون أن التعويل على اعتدال الدولة أو إصلاحها من الداخل أمر مستحيل، ولا حل إلا بالحديد والنار.
تاريخيا كانت مؤسسة العلماء هي عنوان الحفاظ على الدين من عبث السياسة، وحين انحاز الناس إلى الإمام أحمد بن حنبل في صراعه مع المأمون في قضية خلق القرآن، لم تكن القضية بالنسبة إليهم متعلقة بفهم للمسألة، وإنما وجدوا في الموقف رفضا لهيمنة السياسي على شؤون الدين.
منذ قرون، لم يكن التدين حاضرا في حياة الناس كما هو منذ مطلع الألفية الجديدة، وإذا لم يدرك السياسيون ذلك، وواصلوا الصدام معه، فسيخسرون، ويتسببون بخسائر كبيرة لمجتمعاتهم أيضا.
الدستور 2017-08-22