ضحايا تحريف الحقيقة..!
استند تبرير الصهاينة لاستعمار فلسطين على رواية لاهوتية تتحدث عن وجود لليهود في فلسطين قبل 3000 عام. وعلى أساس هذه الرواية، وصفت الصهيونية احتلال فلسطين بأنه "تحرير" و"عودة إلى أرض الأجداد". وعلى أساسها أيضاً، جرى شطب كل الذين سكنوا فلسطين بعد ذلك الوجود اليهودي المزعوم، أو جعلهم هلاميين بلا ملامح ولا هوية. وفوق ذلك، أغفلت الرواية الصهيونية المعاصرة ذلك الجزء من الرواية اللاهوتية نفسها، المتعلق بقدوم أجداد اليهود المزعومين إلى فلسطين غزاة من الخارج، ليحاربوا أهل البلد الأصليين.
في التفسير، يقول الكاتب الصهيوني، متشيل جي. بارد، في كتاب حديث بعنوان "الأساطير والحقائق، دليل إلى الصراع العربي-الإسرائيلي": "ادعاءات الفلسطينيين بأنهم على صلة بالكنعانيين ظاهرة حديثة وتتناقض مع الأدلة التاريخية. لقد اختفى الكنعانيون منذ ثلاثة آلاف عام، ولا أحد يعرف ما إذا كان أي من أحفادهم قد نجوا، وإذا كانوا قد فعلوا، من يكونون".
ما هي الأدلة التاريخية التي تتناقض معها "ادعاءات" الفلسطينيين؟ لم يذكرها بارد. وهو يقول إن الكنعانيين اختفوا منذ ثلاثة آلاف عام، ولا أحد يعرف عن أحفادهم. لكنه لا يقول إن "العبرانيين" الذين يستدل على وجودهم من التوراة فقط، اختفوا منذ ثلاثة آلاف عام، ولا يعرف أحد ما إذا كان لهم أحفاد نجوا، ومن يكونون!
ويقول بارد أيضاً: "على مدى الألفي سنة الماضية، كانت هناك غزوات واسعة النطاق (مثل الحروب الصليبية)، والهجرات، والطاعون، والكوارث الطبيعية أو المصنوعة الأخرى التي قتلت معظم السكان المحليين. وقد تم استبدال السكان المحليين بأكملهم عدة مرات. وخلال فترة الانتداب البريطاني وحدها، هاجر أكثر من مائة ألف عربي من البلدان المجاورة، وهم يعتبرون اليوم فلسطينيين".
مَن هم "السكان المحليون" الذين قتلتهم الهجرات والكوارث وغيرها. ومَن هم الذين هاجر أكثر من مائة ألف عربي للانضمام إليهم في فلسطين؟ ماذا تمكن تسمية الناس الذين كانوا في فلسطين قبل الانتداب البريطاني وأثنائه؟ وهل كل الذين كانوا في فلسطين "على مدى ألفي سنة" لا ينتمون إلى المكان ولا يتسمَّون باسمه؟ وما العيب في اعتبار الذي هاجر إلى فلسطين فلسطينياً، بينما ليس هناك عيب في اعتبار الذي هاجر أمس إلى فلسطين المحتلة "إسرائيلياً".
ويقرر بارد أيضاً: "وعلى النقيض من ذلك، لا يوجد مؤرخ جاد يثير التساؤل حول العلاقة اليهودية التي تزيد على ثلاثة آلاف سنة مع أرض إسرائيل، أو علاقة الشعب اليهودي الحديث بالعبرانيين القدماء".
بعد هذه الخلاصة، لا يقول بارد شيئاً وينتقل إلى موضوع آخر، باعتبار أن استنتاجه مفروغ منه. على أي أساس؟ وعلام اعتمد مؤرخو بارد "الجادون" في ثقتهم؟ وكيف لم يرَ الأكاديمي بارد كل الذين شككوا في الرواية اللاهوتية و"الطابو الإلهي" وصنفوا ذلك في فئة الأسطورة؟
بالمثل، تُعتّم الرواية الأميركية الأساس الاستعماري والإبادات الجماعية التي مارسها "الآباء" في حق سكان أميركا الأصليين، والعنصرية البنوية في المجتمع الأميركي. وبدلاً من ذلك، تسوَّق الثقافة الأميركية بوصفها حارسة "القيَم" المكلفة بمهمة نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالَم. وهذه هي النسخة الأميركية من "التنوير" الذي ادعاه الاستعمار الأوروبي الظلامي الوحشي في القرنين الماضيين، و"التحضر" الذي يزعم المستوطنون الصهاينة الهمجيون أنهم جلبوه إلى فلسطين.
في سياق تحريف الرواية المتواصل والناجح بفعل القوة والمال وموت الضمير أيضاً، يفهم كل العالَم الآن أن كوريا الشمالية دولة عدوانية استبدادية تهدد الأمن العالمي، بل وأمن الولايات المتحدة نفسها. لكن الكاتب داريوس شاتاسماسيبي يُذكِّر بأن كوريا لا تقصف أحداً بينما تقصف أميركا ثماني دول وتهدد بقصف التاسعة. كما يذكِّر بأصل "عدوانية" كوريا تجاه الولايات المتحدة: "في أوائل الخمسينيات، قصفت الولايات المتحدة كوريا الشمالية... فدمرت أكثر من 8.700 مصنع، و5.000 مدرسة، و1.000 مستشفى و600.000 منزل، وقتلت في نهاية المطاف ما يقارب 20 في المائة من مجموع سكان البلد"، حتى لم يبقَ في البلد أهداف يمكن أن تضربها الطائرات.
بعد ذلك فقط أرادت كوريا الشمالية حماية نفسها بامتلاك الأسلحة النووية. والآن، أصبح المراقبون يحذرون أميركا من مغبة الاعتداء على كوريا حتى لا تتعرض لرد فعل يؤذيها فعلاً. وهذا يختصر الحكاية: الحق هو القوة. والضعيف روايته لا تُصدّق.
الغد 2017-08-24