ولاية «داعش» في جنوب شرق آسيا
في الوقت الذي كان يتعرض تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لانحسار نفوذه وسيطرته على مناطق شاسعة في مقره الرئيس في العراق وسورية فقد أعلن عن تمدده في جنوب شرق آسيا، إذ شن التنظيم هجوما واسعا هجوماً على إحدى المدن الواقعة في جزيرة مينداناو جنوب الفلبين في 23 أيار 2017، وتمكن بعد اشتباكات عنيفة مع الجيش الفلبيني من السيطرة على ماراوي وإعلانها أول إمارة له في جنوب شرق آسيا، وبعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر لا يزال التنظيم يسيطر على أجزاء من المدينة ويخوض معارك شرسة.
على الرغم من تهوين السلطات الفلبينية مع بداية الهجوم على ماراوي من قدرة تنظيم «داعش» على الصمود والبقاء والتمدد، إلا أن عدم تمكن السلطات الفلبينية من فرض الاستقرار واستعادة المدينة خلق حالة من القلق والخوف من تمكن التنظيم من تأسيس ولاية في الفلبين سوف تشكل خطرا جسيما على بلدان أخرى في جنوب شرق آسيا وأستراليا يمكن أن تعرض المنطقة في المستقبل القريب لهجمات إرهابية يكون مصدرها ولاية «داعش» الجديدة.
يكمن قلق المجتمع الدولي عموما ودول جنوب شرق آسيا خصوصا من تمكن تنظيم «داعش» من تكوين هياكل تنظيمية صلبة قادرة على خلق ملاذات آمنة تتسم بالديمومة والتمدد، في ظل إيديولوجية تتمتع بقدر من الجاذبية اللازمة لاستقطاب مقاتلين من مناطق عديدة، فحسب مصادر من المخابرات الفلبينية، فإن نحو 40 مقاتلاً جاؤوا في الفترة الأخيرة من الخارج وبعضهم جاء من دول في الشرق الأوسط كانوا ضمن ما بين 400 و500 مقاتل اجتاحوا مدينة «ماراوي» في جزيرة مينداناو، جنوبي البلاد، وأضاف المصدر، أن من بينهم «إندونيسيين وماليزيين وباكستانيا واحدا على الأقل وسعوديا وشيشانيا ويمنيا وهنديا ومغربيا وشخصا واحدا يحمل جواز سفر تركيا.
لقد كشف هجوم ولاية داعش الكبير على مدينة ماراوي في الفلبين عن قدرة التنظيم على نسج علاقات مع حركات محلية، وقدرته على تغيير نهجها وسلوكها نحو مزيد من العنف والراديكالية، فالخطورة التي مثلها تنظيم «داعش» تتجاوز خطورة الحركات الجهادية كالقاعدة على صعيد الإيديولوجية والاستراتيجية، وهي تمنح الحركات الجهادية المحلية هوية إيديولوجية باتت تشكل نموذجا إرشاديا في تكتيكات العنف والتوحش واستراتيجيات السيطرة والتمكين تتجاوز النكاية والانتقام، وقد أكد الخبير الأمني بكلية «إس. راجاراتنا» للدراسات الدولية في سنغافورة، «روحان جوناراتنا» أن «تنظيم الدولة الإسلامية يتقلص في العراق وسوريا ويتناثر في مناطق من آسيا والشرق الأوسط»، مشيراً إلى أنه من المناطق التي يتوسع فيها هي جنوب آسيا والفلبين التي تعتبر مركز الاستقطاب.
خلال العامين الماضيين أعلن تنظيم «داعش» والجماعات المرتبطة به مسؤوليته عن عدة هجمات في مختلف أرجاء جنوب شرق آسيا، لكن المعركة في مدينة «ماراوي» كانت أول مواجهة طويلة مع قوات الجيش والأمن الفلبيني، الأمر الذي يشير إلى تحول كبير في استراتيجية وتكتيكات التنظيم وتطور كبير في قدراته، فبحسب صحيفة «النبأ» التابعة له أسفرت المواجهات عن مقتل 335 ممن يطلق عليهم التنظيم «الصليبيين»، وكان التنظيم قد أصدر العام الماضي شريطا مصورا لمقاتلين من جنوب شرق آسيا يقاتلون في سوريا يحثون فيه مواطنيهم على الانضمام لأتباع التنظيم في جنوب الفلبين أو شن هجمات في الداخل بدلاً من محاولة السفر إلى سوريا.
لقد دفع القتال في المدينة الفلبينية رئيس البلاد، «رودريجو دوتيرتي» إلى فرض الأحكام العرفية في جزيرة «مينداناو» التي تماثل كوريا الجنوبية في الحجم ويقطنها نحو 21 مليون نسمة، حيث تواصلت جماعة ماوتي التي بايعت تنظيم «داعش قتالها في مدينة ماراوي جنوب الفلبين مستعينة بهاربين من السجن وبنادق وذخيرة سرقت من مركز للشرطة، وقد أثبتت جماعة ماوتي أنها خصم شرس إذ صمدت في قلب مدينة ماراوي على مدى ثلاثة أشهر من الغارات الجوية، حيث لجأ الجيش الفلبيني للمرة الأولى إلى الاستعانة بطائرات (إس.إف-260) لدعم طائرات الهليكوبتر المقاتلة والقوات البرية التي تسعى لحصار المقاتلين منطقة بوسط المدينة.
تلخص عملية الهجوم على مدينة ماراوي كيفية تحول جماعات محلية إلى حركات راديكالية متطرفة، في ظل أسباب وشروط وظروف موضوعية تتوافر على مشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة، إذ تشهد جزيرة مينداناو منذ عشرات السنين انتشار العصابات والمتمردين المحليين والحركات الانفصالية، لكن المسؤولين كانوا يحذرون منذ فترة طويلة من أن الفقر وغياب القانون والحدود غير المحكمة لجزيرة مينداناو التي تقطنها أغلبية مسلمة تعني أنها قد تتحول إلى قاعدة للمتشددين من جنوب شرقي آسيا ومن خارجها خصوصا مع طرد مقاتلي «داعش» من العراق وسوريا.
يثبت تمدد «داعش» في جنوب شرق آسيا مرة أخرى طبيعة الإيديولوجية الهوياتية للتنظيم، وقدرته على استثمار الانقسامات الهوياتية الدينية والإثنية، إذ تعاني الفلبين منذ عقود من إشكاليات صراع هويات تاريخية وثقافية استغرقت أجيالاً كثيرة، الأمر الذي استثمره التنظيم للتلاعب بالمتناقضات في جزيرة مينداناو، كبرى جزر جنوب البلاد، وعمل على تحويل ولاءات جماعات محلية كجماعة «أبو سياف» والحركات المنشقة عن «جبهة تحرير مورو الإسلامية» أمثال جماعة الشقيقين عبد الله وعمر ماوتي، المعروفة بـ»جماعة ماوتي» أو «دولة لاناو الإسلامية»، و»جماعة مقاتلي بانجسا مورو الإسلاميين من أجل الحرية»، وجماعة «أنصار الخلافة» في الفلبين، ويعتبر إسنيلون هابيلون زعيم جماعة «أبو سياف» أبرز القيادات التي بايعت «داعش» حيث صنفته الولايات المتحدة كقيادي إرهابي ووضعت مكافأة مالية هائلة لمن يرشدعليه.
إن معركة ماراوي أثبتت أن ولاية «داعش» في الفلبين باتت مكانا مفضلا لجهاديي جنوب شرق آسيا، فقد ذكرت وزارة الدفاع الإندونيسية أن نحو 12 ألف مقاتل أجنبي ينشطون اليوم على الأراضي الفلبينية، ومن بينهم عشرات من الإندونيسيين، وكذلك من ماليزيا، إذ حدد رئيس وحدة مكافحة الإرهاب في الشرطة الماليزية أيوب خان أسماء عدد من الماليزيين، سافروا بالفعل إلى جزيرة مينداناو الفلبينية بهدف الانضمام إلى المقاتلين المتشددين هناك، وأوضح أن بين هؤلاء محمود أحمد، المحاضر الجامعي الماليزي، الذي يُقال أنه من المتوقع أنه يتولى قيادة التنظيم في جنوب الفلبين إذا ما قتل هابيلون الذي أعلن ولاءه لزعيم تنظيم الدولة، أبي بكر البغدادي في سنة 2014.
على الرغم من تنامي قوة ولاية «داعش» في الفلبين لا تزال حركة «مورو» القومية تشكل خطرا أمنيا في مينداناو أكبر بكثير من تنظيم الدولة، وإذا قورنت جماعات مورو المسلحة في المنطقة، مثل جبهة تحرير مورو الإسلامية وجبهة مورو للتحرير الوطني، التي قادت التمرد ضد مانيلا لأكثر من أربعة عقود، بالجماعات الجهادية الأخرى، فإنها أخطر بكثير، حيث يقدر عدد قواتها بعشرات الألاف، فضلا عن أن لها تأثيرا كبيرا على الجماعات التي أعلنت انتمائها لتنظيم الدولة، لكن في ظل غياب التزام حكومة الفلبين بوعودها بمنح مينداناو الحكم الذاتي وتنامي الشعور بالإقصاء والتهميش فإن إيديولوجية «داعش» سوف تشكل جاذبية مضاعفة.
الراي 2017-08-28