"تحت طائلة المسؤولية"..؟!
أحد المنازل في عمان –ومن المؤكد أنه ليس الوحيد- حجز مساحة كبيرة من الشارع خارج السور والرصيف، وثبت شاخصة تقول: "ممنوع الوقوف تحت طائلة المسؤولية". ومن الملفت أن الناس التزموا بالتحذير وابتعدوا عن إيقاف سياراتهم في الشارع في محيط ذلك المنزل. ولو وضع كل منزل في عمان مثل هذه الشاخصة، لاضطر الناس إلى البحث عن مكان لإيقاف سياراتهم في المريخ. لكن المثير للانتباه في هذا التحذير هو عبارة "تحت طائلة المسؤولية". ما المقصود بذلك؟ إذا كان الشارع مساحة عامة غير مسجلة للأفراد، وما لم توجد شاخصة رسمية تمنع الوقوف، فأي سلطة لمواطن ليحمِّل الآخرين "المسؤولية"؟ وهل سيكون الرد "شخط" السيارة بآلة حادة من كل الجهات، أم إفراغ الهواء من الإطارات؟ أم أكثر من ذلك؟ ولماذا لا يحمل صاحب الشاخصة المسؤولية لنفسه عن مصادرة الفضاءات العامة؟
وفي حيّ آخر في عمان أيضاً، قام صاحب منزل فاره "فيلا" بإغلاق شارع قصير يصل بين شارعين أمام منزله بالحجارة من الجهتين. وما يزال هذا الشارع مغلقاً منذ سنوات، وقد قبل سكان الحي بالالتفاف مسافة أطول بكثير للوصول إلى منازلهم، على أساس "الحقائق على الأرض" فيما يبدو. ولا بد أن مغتصب الشارع يعتبر كل من "ينتهك" حيز الشارع المصادر "تحت طائلة المسؤولية" أيضاً. ولأن الناس يفترضون أنه "نافذ"، سواء بالاستدلال بالغنى الظاهر في شكل العقار الفخم، أو باحتلال وظيفة ما مهمة، بدليل تغاضي بلدية المنطقة عن إزالة حواجزه، فإنهم يتجنبون "طائلة المسؤولية" التي قد تطالهم إذا اعترضوا أو تصرَّفوا.
هذان مجرد مثالين فقط من عشرات الأمثلة على مواطنين بيننا يعتبرون أنفسهم فوق القانون –بل القانون نفسه- ويظنون أن لهم حق تهديد مواطنيهم بوضعهم "تحت طائلة المسؤولية". وأمام ذلك، يمتلئ المواطن العادي بالحيرة والتوقع أمام هؤلاء الجيران، ويتصور دائماً شيئاً خفيّاً ربما يفاجئونه به إذا تجرأ على التساؤل بصوت مسموع. وقد يتصور –محقاً- أن "طائلة المسؤولية" قد تعني ضربه، أو إطلاق النار عليه، أو تلفيق قضية له تضعه وراء الشمس. وتبرز ظاهرة الاستئساد على الآخر بشكل خاص في بعض الأحياء ذات الأغلبيات العائلية، أو عند بعض أصحاب القلاع الفخمة الكبيرة.
هذا كله يتعلق بمواطنين لا ينتمون –نظرياً- إلى فئة الزعران الذين يحترفون العنف واستيفاء "الخاوات" والاعتداء دون اعتبار لأخلاق ولا قانون. وإذا أضفنا هؤلاء إلى أولئك، فإن المواطن قليل المال والرجال، أو الذي لا يعتقد بأخلاقية التنمُّر بعزوة أو مال، سيحسّ بسلطة مُقحمة في المسافة بينه وبين القانون الرسمي وسلطة الدولة. وقد يشتبه بأنه إذا وقف أمام هؤلاء في قضية، فإنهم سيستخدمون اتصالاتهم ونفوذهم وعلاقاتهم وانطواءهم على عناصر المكر والشر، ليجعلوه خاسراً أكيداً.
هذه الظواهر المحسوسة في مجتمعنا تتصل في مبتدئها وخبرها بالمفهوم الهام والحيوي: حكم القانون. وفي غياب حكم القانون والآليات العملية والواضحة لتشغيله، يجترئ الأفراد –والمجموعات العائلية أو العصاباتية- على إسناد السلطة لأنفسهم بحرية، وأخذ "حقهم" المتصوّر بأيديهم واستضعاف الأقل منهم حظوة من مواطنيهم. وفي ذلك شكل معاصر من استقواء القبيلة القوية القديم على الأخرى الأضعف، أيام حياة الصحراء المفتوحة التي لم يحكمها قانون ولا دولة. وهو يشفّ عن تناقض مفزع بين الشكل الحضري في المدينة وبين ما يخفيه المظهر المزوّق من بدائية في السلوك تجاه الآخر والدولة معاً.
ربما لا يجوز السكوت. ربما يجب الاتصال بأحد ما للاستفسار عن أحقية مواطن في حجز الشارع، بشاخصة أو بزرع الحواجز والعراقيل. لكن ذلك يتطلب رواج الشعور بأن ذلك يجدي، وبأن استنطاق أحقية أيّ أحد لن تفتح على المستفسر عش دبابير. وستتشكل هذه الانطباعات فقط بمشاهدة نمط متكرر وسائد من التطبيق الحقيقي لحكم القانون، بالمساواة والعدالة اللازمَين والحتميَّين، بلا محاباة ولا واسطة. وسيتطلب الضرب بقوة على أيدي أي أفراد وجماعات تستعير لنفسها سلطة الدولة، وتعطي نفسها حق تطبيق قوانينها الخاصة. ويجب تبديد المناخات والشروط الذي تتيح لمواطنين مدنيين إصدار تهديدات معلنة ومكتوبة بخط عريض، بوضع مواطنيهم "تحت طائلة المسؤولية"!
الغد 2017-08-31