فشل الاستثمار في الإنسان..!
عندما تكون الدول محرومة من الموارد الطبيعية الجالبة للثروة، فإن خيارها الوحيد المتبقي يكون الاستثمار في إنسانها. والتصور البسيط للاستثمار في الإنسان هو تأهيل الأفراد بأفضل طريقة ممكنة بهدف تحصيل أقصى عائد من إنتاجيتهم المحترفة. ومثل تأسيس أي مشروع استثماري، ينبغي أن تبدأ العملية بالإنفاق، حتى لو كان ذلك بأموال المساعدات والقروض، إلى أن يقف المشروع على قدميه ويدير نفسه بآلياته الخاصة.
تأهيل الإنسان، بوصفه المُدخل الأساسي للإنتاج في الدول التي بلا موارد، يعني توفير التعليم النوعي والحفاظ على الصحة البدنية والنفسية للمجتمعات، بدءاً بالأفراد. ويفترض ذلك عدم التأفف من توفير التعليم المجاني والرعاية الصحية المجانيين، تماماً كما يمكن أن تدفع أي مؤسسة على تدريب كوادرها، مع توقُّع استرداد الكلفة ثم الربح. لكن الحرمان من الموارد الطبيعية إذا رافقه سوء الاستثمار في الإنسان، سيعني الإفلاس والأزمة والدوران في دائرة شرسة.
ربما يكون من أهم الأمثلة على الاستثمار في الإنسان تجربة اليابان، الدولة الصغيرة قليلة الموارد، التي خرجت من حرب وحشية وقنبلتين ذريتين لتصبح عملاقاً اقتصادياً عالمياً. وقد تمكنت اليابان من صنع العقل الابتكاري، وبعد ذلك لم تعد الموارد الطبيعية مشكلة لأنه أمكن استيرادها، ثم تصديرها مصنّعة بجودة منافسة ببراعة ذلك العقل، كما يعرف الجميع عن السلع اليابانية والإنسان الياباني. وفي الحقيقة، قد لا تكون هناك منطقة بلا موارد على الإطلاق، وإنما تتعلق المسألة بوجود عقل قادر على إدارة المتاح منها -على محدوديته- في اتجاه اقتصاد منتج، قادر على توفير رفاه معقول. وحتى لو تمكنت الدول من تعليم الأفراد –أو علّموا هم أنفسهم- ولم يتم توظيفهم في مشروعات تستفيد من تأهيلهم، فإن ذلك يعني إفشال فكرة الاستثمار في الإنسان.
الاعتقاد بأن العرق الياباني غير العرق العربي وبأن ما حدث هناك يستحيل أن يحصل هنا، هو فكرة عنصرية ودونيّة في أحسن الأحوال. لكنها تستقر وتكتسب صلاحية بتكرار الفشل. وغالباً ما يكون الفشل إدارياً وليس بسبب رداءة الأفراد بقدر ما هو بسبب المخطِّط والمدير استخلاص أفضل ما في الأفراد. لذلك، يستطيع مديرون تحويل مؤسسة خاسرة إلى واحدة رابحة -بنفس كوادرها وإنما بعقلية أكثر مرونة وذكاءً.
إذا كان من المعقول اقتراح أن تتولى الدول التي ليس لديها ما تستثمر فيه سوى الإنسان تأهيله بالإنفاق على تعليمه وصحته وتوفير العمل له ليعيش، فإن بالإمكان تصور ما يعنيه إلقاء عبء كامل كلف التعليم والصحة والخدمات على كاهل الأفراد. وحتى إذا تمكن هؤلاء من تأهيل أنفسهم من جيوبهم بشق الأنفس، فإنهم لا يجدون المشاريع التي تستوعبهم وتوظف طاقاتهم وترفدهم بالدخل. وإذا وجدوا عملاً، فإن دُخولَهم تُنحت بكل أنواع الضرائب والرسوم والفواتير والمصاريف والأقساط والأسعار المجنونة. وبدل أن يعتمد المواطن على منظومة مؤسسة مُدارة بطريقة تفيد العامل والمستثمر (المواطن والدولة)، فإن المنظومة تصبح عبئاً على العامل/ المواطن، بحيث تأخذ منه أكثر مما تعطيه، ويتأزم الجميع في نهاية المطاف.
الاعتماد علناً على جَيب المواطن في مساعدة المؤسسة، هو حالة غير صحية ولا طبيعية ولا يمكن إدامتها. وإذا كان هذا الاعتماد غير مؤقت بوضوح، فإنه يعني أسوأ "استثمار في الإنسان" يمكن تصوره على الإطلاق، وهو أقرب إلى "استغلال الإنسان". وفي النهاية، لا يمكن توقع إنتاج وإبداع من أفراد مُنهكين، والإنهاك يولد مزيداً من الإنهاك، ويصبح الأمر أشبه بشيء يأكل نفسه.
عند نقطة ما ضرورية، يجب وضع دفاتر المشروع الخاسر جانباً والبدء بدفتر مشروع جديد. وإذا كان الاستثمار في الإنسان هو العنوان المفروض موضوعياً، فيجب عمل ذلك بالطريقة الصحيحة، باعتبار أن نجاح المؤسسة وربحها مرهونان بلياقة الأفراد وتمتعهم الصحة والحياة والقدرة على الإنتاج المبدع -بل هم المشروع كله في الحقيقة. ولا بأس في اقتراض التمويل وطلب المساعدة لاستخدامه كما يجب وحيث يجب؛ ليس لمجرد إدارة الأزمة بتعميق الأزمة، وإنما للإنفاق على أفضل تعليم وصحة وتأهيل للمواطنين وابتكار أدوار لهم جميعاً بإدراجهم في مشروعات واقعية بلا فساد ولا أثَرَة، مع استغلال لا يقل ابتكارية للموارد التي لا بد أن تكون موجودة في كل بلدٍ حيّ.
الغد 2017-09-10