المجتمعات والإنفاق العام
تؤشر السياسات الضريبية إلى الفجوة الواسعة بين المجتمعات والحكومة في الثقة المتبادلة والمشاركة في الأهداف والمصالح، فمن الواضح أن المجتمعات لا تثق بجديّة الحكومات في الإصلاح، ولا تتحمّس لمشروعاتها ومواقفها في السياسات الخارجية والداخلية، حتى في القضايا والاتجاهات التي تؤيدها المجتمعات. وفي المقابل، تسلك الحكومات بعدائية تجاه المجتمعات، وتسعى إلى استتباعها وإضعافها بدلاً من المشاركة والتكامل، وسلبت المجتمعات فرصها وحقوقها في الولاية على كثيرٍ من شؤونها وأولوياتها. وليس الحلّ المقترح لهذه الأزمة في استهداف مباشر أو في معالجة مستقلة عن بناء البيئة الاجتماعية والثقافية وتشكيلها، فغياب هذه الرؤية يؤدي إلى الهدر والفشل، والانشغال بالعمل المباشر تجاه المشاركة، بدلاً من تفويض المجتمعات ودعمها لتنشِئ بنفسها بيئة تعزّز الإصلاح والاعتدال والتمدّن، وتنشئ ثقافة اجتماعية ومدنية، وترقى بحياة الأفراد والمجتمعات، سيجعل كل محاولات الحكومة وجهودها في هذا المجال، تفتقر إلى الحماس والعمق الاجتماعي والتأييد الجماهيري الحقيقي.
لا يمكن بناء شراكة مع المجتمعات، من غير أن تكون مجتمعات حرة مستقلة، تملك مواردها ومؤسساتها، وتدير شؤونها، وتشعر بالكرامة، وتملك رؤيتها المستمدة من تفاعلها الخاص مع قضاياها وتطلعاتها، ومن خلال نخب وقادة اجتماعيين ينتمون إلى المجتمعات ويمثلونها، وفي المحصلة، على السلطة السياسية، حتى تحصل على شراكة المجتمعات وتأييدها، أن تكفّ عن الوصاية على المجتمعات، وعن أن تفكر نيابة عنها، وفي المقابل عليها تشجيع استقلال المجتمعات وقدرتها على امتلاك (وإدارة) مواردها ومؤسساتها الخاصة به، والمستقلة عن السلطة وعن الشركات.
وفي الوقت نفسه يجب أن تتحول قضية استقلال المجتمعات ومشاركتها مع السلطة والشركات إلى قضية وطنية وعامة ملهمة للأحزاب والشباب، فلا يمكن للأحزاب والحركات الاجتماعية العمل والتأثير من غير قواعد اجتماعية تحمل برامجها وأفكارها وتعمل لأجلها… وأظنها معضلة العمل السياسي والاجتماعي في بلادنا اليوم. البرامج والأفكار التي تضعها الأحزاب والجماعات والنقابات للإصلاح والعمل الوطني لا تجتذب كتلة اجتماعية قادرة على التأثير في اتجاهات الانتخابات والتشريع والسياسة العامة والرأي العام، ويتجمع الشباب والجمهور وراء قضايا ومطالب وأفكار منفصلة عن جوهر الحياة السياسية والاجتماعية والعامة. ففي معظم أنحاء العالم الغنية أو الفقيرة، يتشكل المواطنون وراء مصالحهم وأفكارهم، فيمضي المناضلون لأجل تحسين حياة مجتمعاتهم ومواجهة الاحتكار والهيمنة على النفوذ والموارد في رحلة طويلة، لكنهم يعرفون طريقهم ويمضون فيها بدأب ووعي، ولكنّ أحداّ لا يعرف وجهة للنضال والعمل السياسي والتقدم للانتخابات النيابية والنقابية والبلدية في بلادنا، لم تساعدنا الأحزاب السياسية ولا نسبة التعليم المرتفعة ولا تكرار الانتخابات ولا التحديات الواضحة ولا الصحافة وشبكات الانترنت والتواصل الاجتماعي في التشكل والعمل وراء الفكرة الجوهرية للانتخابات.
وبعبارة أكثر وضوحا، فإن الإصلاح بما هو يسلك طريق الانتخابات ليس سوى عمل اجتماعي يعكس تحالفات عملية واقعية مع النخب، والحال أنه لا فرصة للإصلاح إلا أن يكون مصلحة للطبقات والنخب المؤثرة والمنظمة، ثم نحول هذه "الانتهازية" الى تشكل اجتماعي وثقافي، تجمعات شبابية وجماهيرية تلهمها أفكار جميلة عن الحريات والعدالة، وتدفعها الى العمل والمشاركة، ولكنها تدرك (يجب أن تدرك) أنها تتحقق نسبياً في تحالفات براغماتية. وفي المقابل، فمشكلتنا في كل قضايانا العامة والنضالية الصغرى والكبرى هي الانتهازية المقلوبة. فالنخب التي تحكي "إصلاحاً ونضالاً" تتحالف واقعياً مع الاوليغارشيا ضد المجتمعات.
الغد 2017-09-14