الدّحية الحربية والعومحلية الثوريّة
يوفر جهاز الأورغ الحديث، فرصة عزف ألحان موسيقية، وإضافة مؤثرات صوتية (كصوت الرصاص) مع إيقاعات مختلفة، ومن هنا إذا تجولت في أعراس فلسطينية، في قُرى وبلدات مختلفة، داخل فلسطين، ستجد مؤخراً، ومع استمرار النضال والاحتلال، انتشار ما سمّي "الدّحية الحربية"، ويتنافس المغنون ومعهم جهاز أورغ، فيما يقدّمون تحت هذا العنوان. والظاهرة على وطنيتها، فيها طرافة، وعلى بساطتها، تحمل أوجه التعقيد المصاحب لظاهرة العولمة، من حيث أثر التكنولوجيا ووسائل الاتصال على التنظيم السياسي أو أثر العولمة البالغ وفتح الباب للفردية والتفرّد ولكن في الوقت ذاته إتاحة عمليّات استنساخ رأسمالي تنهي التنوع والإبداع.
لإنتاج أغنية وطنية في الماضي، كانت هناك حاجة لتآزر سلسلة طويلة من الشعراء، والملحنين، والموسيقيين، والمعدات والأجهزة الموسيقية والتسجيل والمغنين، وبالتالي كان لا بد من "تنظيم" قد يكون شركة، أو فصيلا، أو فرقة، أو حزبا، أو حكومة لتقديم ذلك وتكاليفه. وفي السياق الفلسطيني مثلا، عندما تُذكَر فرق غنائية مثل العاشقين، أو جذور العاشقين، أو الطريق، أو الفنون الشعبية، أو الأهالي، أو المخيم، أو..إلخ، يُذكَر انتماؤها الفصائلي والسياسي وحتى الفكري والأيديولوجي، وبشكل أو بآخر، كانت هذه جزءا مما يسمى بالإعلام الجماهيري (Mass media). وفي مناسبات كالأعراس وحفلات المدارس والجامعات كان يتم "تقليد" هؤلاء الفنانين الكبار من قبل الشبان والمغنين المحليين.
هناك ميزة مشتركة بين العولمة والتراث الشعبي؛ أن كليهما يقدمان قوالب عامة مشتركة تُملاُ بمضمون يعكس خصوصيات محلّية متغيرة.
في مراحل الثورة الصناعية المبكرة، عندما تحوّلت الكتابة والفن إلى منتج رأسمالي، فيما يرمز له عادة بالطباعة الرأسمالية (Capitalist print)، كانت الفكرة الأساسية أن أي منتج يمكن استنساخه وتوزيعه بأعداد كبيرة، ولكن في مرحلة العولمة، فإنّ عملية التوزيع لم تصبح أسرع وحسب، بل ونمت فكرة بيع أو توفير مادة وقوالب نصف جاهزة يمكن لأي فرد أن يضيف عليها مضموناً، مهما كان المضمون جيدا أو سيئا. وهذه فكرة المدونات، والفيسبوك، وتويتر. وأيضاً صار ممكنا عمل أفلام وأغنيات بإضافة صور وكلمات لبرامج تصنع الفيلم والموسيقى جاهزة يمكن دبلجة الكلمات معها. وبدل فكرة "تقليد" الفنانين التي كانت موجودة سابقا، انتشرت فكرة "استنساخ" لقوالب جاهزة، وتركيب مضمون خاص عليها. وهنا التقى التراث الشعبي مع العولمة، فالتراث يقدم أيضاً ألحانا وجزءاً من كلمات تتم الإضافة إليها، مثل، دلعونا، وزريف الطول، ...إلخ.
يرتبط تراجع دور الأيديولوجيا في عصر العولمة بأكثر من سبب، منها نهاية الحرب الباردة، وسقوط الاتحاد السوفياتي، ويأس المناضلين والجمهور من وعود الثورة الكبرى. ومن الأسباب أيضاً التكنولوجيا التي مكنت الفرد من تكوين إعلامه وتنظيمه (مجموعاته) الخاص، دون تنظيم وحزب وفصيل. ومن نتائج تراجع الأيديولوجيا العودة للهويات الفرعية المحلية والعائلية حيث انتعش التراث البدوي والقروي.
أدى استخدام تقنيات المعلومات الحديثة، والمحوسبة، إلى زيادة القدرة على الأداء الفردي في الغناء والموسيقى، بدءا من تصغير حجم الفرق الفنية، وصولا لسهولة تسجيل وبث وتوزيع المواد المختلفة عبر أجهزة الحاسوب الشخصية.
عندما تجد عدّة مغنين يغنون لحناً واحداً ويبدؤون بكلمات متشابهة مثل "لو زغرد صوت البارود..."، ثم يضعون كلماتهم، ويقولون إنّها دحيّة (بدوية) حربية، فهذا نتيجة تعمّق قدرة الفرد أن يقدم منفرداً ما يريد من مادة اتصالية، ولكن الحقيقة أنّه لا يقدم شيئاً فردياً، بل إن مرحلة العولمة، أسهمت في ما يمكن تسميته "مكننة" الكتابة والغناء، أي استخدام الماكينات (الآلات)، فلم تعد تحتاج لأيدٍ عاملة، (شعراء، وملحنين، ومغنين، ومهندسي صوت، وشركات وشبكات توزيع وبث، وتلفزيون وراديو يبث)، كما تم خفض التكاليف كثيراً، فلم تعد الرعايات الحكومية والفصائلية مطلوبة. ونتيجة لتراجع الأيديولوجيا تراجعت أهميّة الكَلمات ومعانيها، وتراجعت الهويات الجامعة، وكل ما سلف يضعف الأيديولوجيا والتنظيم بشكل أكبر.
إذاً البنى التنظيمية التقليدية غير قادرة على إنتاج ثقافي وفني، ومن يحاول ملء الفراغ يستفيد من البناء التحتي للعولمة، بطريقة تعكس الثقافات المحلية. وفي الحالة الفلسطينية لأنّ الاحتلال موجود والشهداء يرتقون والأسرى يعانون، أنتج أهاليهم ومحبوهم مواد خاصة بهم، يتداولونها في أعراسهم ومناسباتهم، و"يوتيوباتهم" عن أبناء قراهم ومخيماتهم. وهذا في جزء منه، هو العومحلية (أدوات العولمة لأغراض محلية).
الغد 2017-09-14