المدن الآيلة للسقوط
يشكل تخطيط المدن وتنظيمها جزءا أساسيا من متطلبات المواطنة ومهاراتها التي يجب أن يحيط بها كل مواطن، لأن المشاركة العامة والسياسية تكاد تقوم على إدارة المدن والحياة فيها،.. ما المدينة؟ كيف ظهرت في الوجود؟ ما أوجه النشاط التي تشجعها؟ وما الوظائف التي تؤديها، وما الأهداف التي تحققها؟ هل ستختفي المدينة أم أن الأرض كلها ستتحول إلى خلية حضرية شاسعة؟ وهو ما يكون صورة أخرى من اختفائها.
يقدم كتاب "المدينة على مرّ العصور" تأليف لويس ممفورد دراسة تاريخية اجتماعية جميلة ومهمة لتشكل المدن وتطورها، وربما يعود الفضل في قيام المدن إلى الموت، ففي اهتمام الإنسان بالموتى ودفنهم، تشكلت معالم ومبان ثابتة يعود الناس إليها في ظل حالة لم تكن تشجع على الإقامة الدائمة في مكان واحد عندما كان الإنسان يعتمد في حياته على الصيد وجمع الطعام والثمار، والثابت أن مدينة الأموات سبقت مدينة الأحياء في الوجود، وفي الواقع فإن القبور والمقابر كانت نواة المدن.
ويمثل الكهف مكانا آخر في بيئة إنسان العصر الحجري يلجأ إليه الإنسان للزيارة أو الإقامة، ولم تكن الكهوف للسكنى لكنها كانت مراكز للطقوس الدينية. ويلفت الاهتمام المستوى المتقدم للرسومات التي وجدت على جدران تلك الكهوف. وقبل الاستقرار في مكان واحد لفترة طويلة أو دائمة فقد انشئت ساحات وهياكل للتجمع والالتقاء لأجل الطقوس الدينية والمتعة الاجتماعية والتبادل التجاري. وما تزال مكة والقدس وروما وبارس وبيجين وكيوتو ولورد تستهوي أفئدة الناس ليحجوا إليها. وكان عامل ثالث في تجمع الناس واستقرارهم هو لقاء الأسر والقبائل للسكنى في موطن مشترك أو لتنظيم الصيد وجمع القوت. هكذا يمكن ملاحظة ثلاثة مظاهر للاستقرار؛ اثنان منها مرتبطان بشؤون مقدسة؛ الموت والولادة، والثالث لتنظيم وتحسين البقاء المعيشي والمادي.
ومن المحتمل أن يكون الدور الثاني من مرحلة الاستقرار والاستئناس والتغذية المنتظمة قد بدأ منذ عشرة آلاف او اثني عشر ألف سنة، مصاحبا للزراعة وتقنياتها، واستخدام الحيوانات وتدجينها، وهي المرحلة الممكن تسميتها "الثورة الزراعية" ومن المحتمل أن ما يسمى الثورة الزراعية قد سبقته ثورة جنسية، فالاستئناس بجميع صوره ينطوي على تغييرين كبيرين، وهما دوام الإقامة واستمرارها مع ممارسة التحكم والتدبر في أمر عمليات كانت قبلا تحت رحمة الطبيعة، وتسير مع هذا جنبا إلى جنب عادات الإنجاب والإرضاع والتربية.
صار للمرأة حضور مميز ودور أساسي في تربية الأطفال والعناية بهم، والمشاركة في العمليات الزراعية، لقد ترك وجود المرأة أثره في كل جزء من أجزاء القرية: البيت والفرن وحظيرة الماشية وصومعة الحبوب وصهريج الماء ومخزن الغلال، ثم المدينة: السور والساحات والمباني والأروقة، ولولا الكلب والخنزير لكان من المشكوك فيه أن يتيسر للمجتمع البقاء بحشوده المكدسة وعاداته المنافية للقواعد الصحية، وحتى القرن التاسع عشر كان الخنزير يقوم بدور مساعد في النظافة في مدن متقدمة مثل نيويورك ومانشستر. وربما يكون منشأ تحريم أكل الكلاب احتراما وتقديرا لها، أو للحفاظ على وظائفها الأساسية غير أن تكون طعاما للناس، وحين أصبحت الغلال وفيرة استخدمت القطط والأفاعي الأليفة لمواجهة الحيوانات القاضمة التي كانت تنقل الأمراض وتستنزف المخزون. ولا بد من القول إن الفئران والصراصير ارتبطت ارتباطا دائما بالمنشآت الجديدة.
تمثل المدينة سلسلة مطورة ومتراكمة من التقنيات والابتكارات التي نشأت في القرية، الأواني ومخازن الغلال وقنوات المياه. وفي حاجتها للحماية تقدم الصيادون في مجتمع القرية بسبب قوتهم وشجاعتهم، وصاروا حكاما وقادة، وتحولت مهنة قتل الوحوش والحيوانات وصيدها إلى قتال الأعداء وبناء وتنظيم الجيوش، ولم يعد السلاح مقصورا على قتل الحيوانات، بل كذلك لتهديد الناس، وصاروا يجمعون الضرائب مقابل الحماية.
الغد 2017-09-27