نجم يتلألأ في سماء القدس
نمر الجمل اسم النجم الجديد الذي انضم، قبل ايام قليلة، الى مئات النجوم المتلألئة في سماء القدس، وطوّب نفسه كشهيد كبير، في قائمة من آلاف الصبايا والفتيان، الذين قضوا على الطريق الطويل، دون ان يساوره التردد، او تنال من مضاء عزمه حسابات عائلية خاصة، او تثلم حدّ حديد روحه القاطع خشية من ردود انتقامية، كان يعلم سلفاً انها تحصيل حاصل من جانب احتلال غاشم، درج على الثأر من ذوي المقاومين، وفي مقدمتها هدم بيت العائلة، وتشريد افراد الاسرة، وما الى ذلك من ممارسات لا يندى لها جبين اولئك الطغاة.
هذه السطور مجرد تأملات في شخصية نمر، اكثر من كونها قراءة في هذه العملية الفدائية، التي لم يتبنها احد، ولم تتنافس على شرف القيام بها فصائل كانت تتسابق، في العادة، على نسب مثل هذه العملية لنفسها، جرياً وراء الشعبية وإثبات الذات، لا سيما أن منفذ الهجوم بالسلاح الناري، كان هو الذي خطط ودرس ودبر بمفرده، وقام بهذه العملية وحده، بقدرة وبراعة وشجاعة متميزة، الامر الذي تستحق معه هذه الشخصية الاستثنائية مقاربة تحليلية معمقة، معتمدة على ما هو متاح من حقائق منشورة، ومعلومات متداولة، معظمها من مصادر اسرائيلية.
نحن اذن امام شاب في مقتبل العمر، له 37 سنة، ولد تحت الاحتلال، بعد نحو14 عاماً على وقوع حرب حزيران 1967 ، متزوج وعنده 4 اطفال اكبرهم في سن الـ12 ربيعاً، يعمل في مستوطنة تقع شمال غرب القدس منذ 14 سنة ايضاً، اي انه قضى كل سنوات عمره الانتاجية في تلك المستوطنة، مما يشير الى ان حياته الفردية والاسرية كانت مستقرة، بدخل منتظم، يتحصل عليه لقاء كده من الفجر حتى نهاية النهار، الامر الذي يعني انه كان يفتقر، على الارجح، الى علاقات صداقة مع محيطه الاجتماعي، يتأثر بها وينهل منها قيم ومثل وثقافة المقاومة.
ولعل السؤال هنا، من اين اذن استمد نمر الجمل كل هذه الارادة الفولاذية، وهذا التصميم النهائي على القيام بما لم يقم به آلاف العاملين مثله في المستوطنات الاخرى، التي لا تمنح تصاريح عمل سارية المفعول الا لمن يتم التدقيق في سجلاتهم، ويخضعون لتحقيق امني صارم؟ ومن اين تدبر نمر مسدساً مسروقاً من جيش الاحتلال قبل 14 سنة ايضاً وايضاً، اذا كانت حياته مكرسة للعمل والعائلة الصغيرة، وليس له صلة تنظيمية، فيما يبدو، مع حزب سياسي او فصيل مقاوم، يعبئ ويحشد ويدرب للقيام بمثل هكذا عملية بطولية ناجحة بكل المعايير؟
وبحسب المصادر الاسرائيلية ذاتها، هاجم "النمر" حراس المستوطنة وليس اطفالاً او نساءً من المستوطنين، وانه خلال الهجوم لم يكن مرتبكاً او متردداً، حيث اطلق من مسدسه الصدئ عشر رصاصات من مسافة صفر(من 3 امتار) كلها في الجزء العلوي من الجسم، فقتل ثلاثة جنود واصاب الرابع اصابة خطيرة، كما بدا في غضون فترة تقل عن خمس ثوانٍ لإنهاء العملية الفدائية، كمقاتل من وحدات النخبة المدربة جيداً، او كأحد حراس الشخصيات المهمة، من حيث السرعة الفائقة، والاستجابة التلقائية، والتصويب بمهارة واحترافية شديدة.
وبهذه الصفات والمواصفات، يكون هذا "النمر"، وله من اسمه نصيب وافر، قد كسر الصورة النمطية السائدة لدى الاجهزة الاسرائيلية عن المقاوم الفلسطيني، الشاب الصغير العزب اليائس، الذي يهاجم بسكين او مفك، ويدهس المارة بسيارة مسروقة، وهو ما يشكل سابقة غير مسبوقة، أتت على عكس الصور النمطية التي سادت طوال الفترة التي شهدت عمليات طعن ودعس، اودت بحيوات مئات الفتيات والفتيان، وصرعت ارواح العشرات من المستوطنين، الذي اطلقوا ناراً قاتلة على كل من اشتبهوا، او ادعوا الاشتباه به، على قارعة الطريق.
من هنا راحت آلة الدعاية الاسرائيلية، على الفور، تعمل على تبهيت صورة "النمر" وتسعى الى تشويه سمعته، مدعية ان لديه مشاكل عائلية، وانه كان محبطاً وراغباً في انهاء حياته للخلاص من متاعبه، كي لا يصبح هذا الشاب الباسل قدوة يقتدى بها، او أنموذجاً ملهماً لغيره من الشباب المستعد للتضحية بحياته، في سبيل قضية عادلة، انصرف عنها العالم، وكادت ان تصبح نسياً منسياً.
الغد 2017-09-29