الصهاينة وما وراء تأييدهم للانفصال الكردي
ليست هذه السطور ضد الأكراد وأحلامهم بأي حال، لكن الأحلام وحدها لا تصنع السياسة من جهة، وقد تكون مدمّرة في بعض الأحيان، ويجب أن يحكمها العقل والممكن قبل أي شيء، ولو طارد كل أحد حقوقه التاريخية من دون النظر إلى موازين القوى والوقائع الراهنة، لما توقف الدم في العالم عن الجريان لحظة واحدة.
تشبيه الوضع الفلسطيني بالوضع الكردي كما يحلو للبعض أن يفعل؛ نوع من العبث، فالمشهد مختلف. هنا شعب اقتلع من أرضه، وتم إحلال شعب آخر مكانه، وهو ما لم يحصل مع الأكراد، مع إقرارنا بحشد من المظالم التي تعرضوا لها في العراق وسوريا وتركيا وإيران، وإن سعى أردوغان لحل المعضلة، وتوصل إلى الكثير مع زعماء الأكراد قبل انقلاب المواقف في المراحل الأخيرة، بل إن العلاقة بين برزاني وأردوغان كانت متميزة في المراحل الأخيرة.
ما يعنينا في هذه السطور هو التوقف عند الموقف الصهيوني من النهج الانفصالي للأكراد، وهنا يمكن القول إن الصهاينة ليسوا معنيين أبدا بالدماء الكردية، ولا بالحال الذي سيكون عليه كيان الأكراد في حال الانفصال، فضلا عن الصراعات التي سيخوضونها قبل تأكيد الانفصال، وما سيدفعونه من دماء، فهم (أي الصهاينة) معنيون باستثمار حفلة الدم في المنطقة، أيا تكن هويتها، وهم تحديدا من رسموا حدود الموقف الأمريكي، وتبعا له الغربي من الثورة السورية، تحت عنوان إطالة أمد الصراع لاستنزاف الجميع، وقد نجحوا في ذلك أيما نجاح، حيث استنزفوا جميع أعدائهم في المنطقة، ووجهوا لربيع الشعوب التي يعرفون موقفها منهم ضربة كبيرة.
اليوم، لا يجد الصهاينة حرجا في التضحية بدماء الأكراد، ومن سيصارعونهم. فإذا كان الانفصال، فقد تحقق الحلم الذي فكروا فيه منذ عقود ضمن فيما عُرف بنظرية “شد الأطراف”، أي إنشاء كيانات هشة من حولهم تجعلهم القوى الوحيدة المتماسكة التي يخطب الجميع ودها، ولم يجد ساسة صهاينة مؤخرا أدنى حرج، في الحديث عن إعادة النظر في تقسيمات سايكس بيكو، على اعتبار أنها ليست كافية لتحقيق المطلوب، كما ثبت من خلال جولة ما بعد أوسلو، وجولة ما بعد غزو العراق، وهم الآن يعوّلون على تحقيق أهدافهم بعد الصراع الراهن، أو في ظله، وما سيقوم به الأكراد يخدم هذا الاتجاه.
أين مصلحة الأكراد في هذا الذي يجري؟
المؤكد أن لا مصلحة لهم تذكر سوى تحقيق الأحلام العرقية (الغرائزية المفهومة على أية حال)، لكن مصيرهم لن يبتعد في المحصلة عن مصير دولة جنوب السودان بما فيها من صراعات.
واقع الحال أن الاستفتاء على الانفصال كان حاجة لبرزاني الساعي لتأكيد زعامته للهوية الكردية، أكثر منه تعبيرا عن مصالح الأكراد، وإن لم نختلف في أن تأييد الانفصال ساحق في أوساطهم، وهو (أي برزاني) لعب على هذا الحس الغريزي لتحقيق مصالحه، والهروب من فشله واتساع دائرة دوائر معارضته.
العراق لن يقبل بضم كركوك، فضلا عن أجزاء من نينوى، وسيقاتل دون ذلك، وتركيا لن تسكت بحال، وكذلك إيران، وهكذا تجمّع المتناقضون في جبهة واحدة، وهذا يعني أن الصراع سيكون واسعا ومكلفا.
من ناحية داخلية، سيكون الكيان بلا حدود بحرية، ومحاصرا من كيانات معادية، وهو لن يكون ديمقراطيا؛ لأن لعبة البرزاني وطالباني لن تنتج ديمقراطية حقيقية، وهو في وضع اقتصادي صعب؛ لأن موارده ليست بتلك الضخامة التي يتحدثون عنها، ولدى الإقليم حاليا مديونية هائلة، واحتياطاياته النفطية متواضعة، حتى لو ضمّ كركوك.
الخلاصة أنها مغامرة بائسة، ستكون على حساب الشعب الكردي الذي طالما دفع أثمانا باهظة في صراعات عبثية، ولن يستفيد منها سوى الصهاينة، على النحو الذي ذكرنا، ما يطرح سؤالا مثيرا حول مواقف بعض العرب ممن يؤيدون انفصال الأكراد على نحو موارب؛ في ممارسة طفولية للسياسة من أجل مناكفة آخرين، دون النظر لعواقب ما يفعلون.
هكذا يرتكب الساسة أكبر الأخطاء، وتدفع شعوبهم الأثمان الباهظة.
الدستور 2017-10-01