استراتيجية المؤامرة
تعود من جديد فكرة المؤامرة تنتشر بقوة في الكثير من الثقافات والاقاليم، هناك اعتقاد عند البعض ان العرب اكثر الشعوب قدرة على انتاج فكرة المؤامرة، حتى يلقوا عن كاهلهم عناء ممارسة النقد الذاتي حينما يراجعون مسيرة الفشل التي ألمت بهم في القرون والعقود الاخيرة، وهذا صحيح الى حد ما، ولكن المهم ان العرب ليسوا وحدهم من يصر على ارتياد مدرسة المؤامرة والأخذ من وصفاتها الجاهزة، بل ثمة ظاهرة تاريخية ومدرسة تجذرت تدعي وجود قوة او قوى عالمية خفية في السياسة الدولية والاقتصاد تدير العالم حسب مصالحها، وتصنع النجوم وتطيح بدول ومؤسسات وترفع من شأن اخرى.
الجديد في الأمر انه بعد عقود من تراجع الأخذ بفكرة المؤامرة في الكثير من الثقافات والصراعات، تعود اليوم هذه الفكرة لتنتشر بقوة من جديد وحتى في أعرق الديمقراطيات علينا ملاحظة ما يجري اليوم في الولايات المتحدة؛ وسط العامة وبعض قادة الرأي وبعض الخبراء ولدى السياسيين وفي وسائل الإعلام. من المعروف ان فكرة المؤامرة تنتشر في اوقات الصراعات الحادة وفي الظروف التي تميل فيها القوى الدولية الى ادارة الصراعات بدل حلها.
في هذه الاثناء تزدحم القضايا والقصص في السياسة الدولية وفي الشؤون الداخلية التي بات تيار طويل عريض يربطها بفكرة المؤامرة، لنبدأ من آخر الصف؛ تطل نظرية المؤامرة برأسها بشأن ما جرى في الانتخابات الاميركية (2016) والغريب ان تيارين من الحزبين يرددان المقولة ذاتها؛ الرئيس دونالد ترامب لم يتوقف عن ترديد ان مؤامرة تحاك ضده ووسائل الإعلام وشركات التكنولوجيا الجديدة اطراف بها، والحزب الديمقراطي وتيار عريض يشتم رائحة مؤامرة روسية بالتدخل بالانتخابات، والانفصال البريطاني عن الاتحاد الاوروبي يراه كثيرون نتيجة مؤامرة وخداع، الربيع العربي والثورات العربية سوقت لدى تيار واسع من قادة الرأي والسياسيين وفي الإعلام بأنه مؤامرة كبرى جديدة، وقبل ذلك بسنوات تردد بقوة ان هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) مؤامرة أميركية اخرى.
في دراسة اكاديمية ظهرت مؤخرا حول تاريخ الاكاذيب والاخبار المزيفة وعلاقتها بالأوضاع السياسية، تبين ان الجمهور الأميركي كان اكثر ميلا للإيمان بنظرية المؤامرة في أوقات الصراع السياسي، حيث وصلت ذروة هذا الامر أثناء اشتعال الحرب الباردة في الستينيات والسبعينيات؛ حتى اتهمت حركة الحقوق المدنية بأنها جزء من مؤامرة ورد طرف آخر بأن اغتيال مارتن لوثر كنج جزء من مؤامرة كبرى، كما ان الدراسات المسحية ذهبت إلى أن نحو 40- 60 % من الأميركان يؤمنون بالمؤامرة في ذلك الوقت، في الثمانينيات وبداية التسعينيات تراجعت بقوة نظرية المؤامرة وتراجعت النسب الى 5- 10 % في القرن الجديد عادت نظرية المؤامرة بقوة من جديد.
المشكلة؛ انه في الوقت الذي تتشكل في الغرب نفسه مدرسة تتنامى وتؤمن وتروج للمؤامرة التي تحاك في مكان ما، تمارس السياسة في معظم الاوقات بعقلانية باردة منطلقها المصالح وتستخدم جميع الادوات في سبيلها، في حين لا يحدث هذا الأمر في جهات اخرى من العالم، بل يتم الاستسلام لهذه الفريضة للهروب من مواجهة المصير، بل احيانا تصبح استراتيجية المؤامرة جزءا من الاستراتيجية الدعائية في ادارة المصالح، بمعنى لا بأس ان يتنامى اعتقاد الناس بوجود مؤامرة ما من أجل تمرير هدف آخر حتى وإن كانت تلك الفرضية محض خيال، وللأسف هذا ما يحدث في أغلب الأوقات.