من حروب المدن إلى حرب الاستنزاف
خلقت الاستراتيجية الدولية لمحاربة إرهاب تنظيم «داعش» التي تقودها كل من الولايات المتحدة وحلفائها في العراق وسوريا وروسيا وشركائها في سوريا دينامية جديدة من الحروب، فقد ارتكزت الاستراتيجية العسكرية على إخراج التنظيم من مناطق سيطرته الحضرية وحرمانه من الملاذات الكبيرة وفق مبادئ حرب المدن، ورغم الكلف البشرية والمادية الباهظة تمكنت هذه الاستراتيجية من طرد «داعش»من معظم ملاذاته المدينية في بلدان كما حصل في مدينة سرت الليبية في كانون أول 2016، والرمادي في العراق في شباط 2016، والموصل ثاني مدن العراق تموز 2017، كما أن معاقله الأخيرة في الرقة في شمال سوريا وغيرها على وشك السقوط.
كان واضحا منذ بداية حرب المدن أنها توشك على الدخول في حروب الاستنزاف، فقد حسم تنظيم الدولة خياراته الاستراتيجية العسكرية بعد نهاية مشروعه السياسي كـ «دولة» مفترضة ومفروضة تتوافر على هياكل للسلطة والحكم وتسيطر مكانيا على مناطق مدنية حضرية رئيسية كالموصل والرقة ويستند في عسكريته إلى منطق الحروب النظامية الكلاسيكية ويفرض على مناطق سيطرته منظومته الحاكمة، أن التنظيم سيعمد إلى تغيير استراتيجيته العسكرية باتجاه حرب الاستنزاف، حيث تتبدل أولوياته تجاه الحفاظ على وجوده كمنظمة تتوافر على ايديولوجيا وهيكل تنظيمي وتمويل يستند بصورة أساسية إلى حرب العصابات وتكتيكات الاستنزاف في المناطق الأكثر صعوبة في العمق الصحراوي، فضلا عن مفارزه الأمنية وخلاياه وشبكاته المنتشرة في المدن.
رغم المكاسب العديدة التي حققها تنظيم الدولة الإسلامية بعد سيطرته على المدن، إلا أن الكلفة كانت باهظة، وسوف يعود إلى استراتيجيته الأساسية التي تستند إلى منطق حرب العصابات التي كان يتبعها قبل سيطرته على أراض في العراق وسورية وإعلانه عن دولة «الخلافة» المفترضة، وهي استراتيجية قليلة الكلفة وشديدة الفعالية تقوم على شن هجمات خاطفة عبر مسلحين وعبوات ناسفة وسيارات مفخخة وانتحاريين عبر خلايا التنظيم المتخفية بين المدنيين، فقد طور المجلس العسكري للتنظيم نمطا من الحروب الهجينة، حيث سرعان ما يتكيّف مع التحولات الميدانية وينتقل من نهج اتباع الحروب الكلاسيكية إلى نهج حرب العصابات الذي يعتمد على قوات خفيفة سريعة الحركة ترهق قوات الخصم.
كشفت العمليات والهجمات الأخيرة لتنظيم الدولة في مناطق عديدة النهج العسكري الجديد للتنظيم باعتماد حرب الاستنزاف وتكتيكات حرب العصابات، فقد شن تنظيم الدولة خلال الأيام الأخيرة هجمات واسعة تكشف عن نهجه العسكري الجديد سواء في معاقله الرئيسية في العراق وسوريا أو في فروعه وولاياته المنتشرة وخصوصا جنوب شرق أسيا وسيناء وليبيا واليمن.
استراتيجية الاستنزاف بدأت عندما شن التنظيم ليل الخميس الماضي هجوما معاكسا واسعا في مدينة الرقة شرقي سوريا على أحياء عدة واستعادها من قبضة مليشيات سوريا الديمقراطية، التي كانت أعلنت في حزيران الماضي سيطرتها على نحو 80 في المائة من المدينة، وقتلوا العشرات من مقاتلي حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، كما قتل وجرح عدد من الجنود الأميركيين، وتمكن التنظيم من استعادة السيطرة على نحو 50% من المدينة.
في ذات الوقت أعلن تنظيم «داعش»عن بدء «غزوة أبو محمد العدناني» في محافظات دير الزور وحمص والحسكة، وكان التنظيم قد شن هجمات معاكسة على قوات النظام السوري والروسي وحلفائهم من المليشيات الشيعية، منذ أسبوع أسفرت عن قتل أكثر من 200 عنصر من قوات النظام في هجوم مباغت له على مناطق تمركز النظام في البادية السورية جنوبي مدينة السخنة بريف حمص الشرقي، وأكد التنظيم أنه تمكن من السيطرة على عدة تلال محيطة في المنطقة، وتزامنت اشتباكات السخنة مع فتح التنظيم لجبهات في البادية التابعة لدير الزور، حيث تمكن من قتل 65 عنصراً من الجيش الروسي وجيش نظام الأسد واسترجاع قريتي الشولا وكباجب، وحسب بيان تنظيم الدولة تم أسر عنصرين روس وثالث من جيش النظام، وقتل قائد الجيش الخامس للقوات الروسية، واسترجاع قريتي البوعمر والجبيلة جنوب مدينة دير الزور.
لم تقتصر هجمات «داعش» على سورية، ففي العراق شن تنظيم الدولة خلال الأسبوع الماضي عدة هجمات كبيرة في محافظات عديدة، ففي محافظة ديالى أسفرت هجمات التنظيم عن مقتل وإصابة أكثر من 20 من القوات العراقية ومليشيات الحشد الشعبي، وفي شمال بغداد أسفرت هجمات التنظيم في منطقة الإسحاقي عن مقتل30 وإصابة 42، وفي محافظة صلاح الدين أسفرت الهجمات مقتل 21، وفي محافظة كركوك أسفرت الهجمات عن مقتل 16 وإصابة 30 آخرين، وفي محافظة الأنبار أسفرت الهجمات عن مقتل 60 وإصابة 80 آخرين.
إن تحول التنظيم من حروب المدن إلى حرب الاستنزاف يفرض تحديات مركبة مختلفة على طبيعة الحرب على الإرهاب، ورغم أن التنظيم لن يتمكن من الحفاظ على المناطق التي يستعيدها من خلال الهجمات المركبة الواسعة، إلا أنه يرهق القوات المدافعة ويلحق بها خسائر فادحة ويستنزفها، فلا تزال التكتيكات العسكرية لتنظيم الدولة تتحدى المبادىء التقليدية التي وضعها «ماوتسي تونغ» و»تشي غيفارا» وغيرهم بشأن الحروب غير المتكافئة، فإن تصرفات التنظيم تكشف في الواقع عن فهم متطور لتكتيكات القتال غير المتكافئ، إذ يضع «ماو» ثلاث مراحل للحرب الثورية: المرحلة الأولى يكون تركيز المتمردين على التعبئة الشعبية مع اغتيالات للأفراد الرئيسيين للجانب الحكومي، في المرحلة التالية يتم تصعيد حرب العصابات مع تكتيكات الكر والفر التقليدية في مواجهة قوات الأمن، وأخيرا، وبعد أن تكون الحركة قد اكتسبت القوة الكافية وضعف الخصم في المقابل، يخرج المتمردون إلى الحرب التقليدية وينخرطون في معارك ضارية مع القوات الحكومية، مع الهدف النهائي المتمثل في إلحاق هزيمة ساحقة بهم والاستيلاء على السلطة.
لفد تكيفت عسكرية «داعش» سريعا في مواجهة الضربات الجوية للقوات الأميركية وتجنبت نشر تشكيلات كبيرة من الوحدات المدرعة، وفضلا عن ذلك، استخدمت تكتيكات المناورة بالوحدات الصغيرة مستغلة الفرص من أجل التغطية والتخفي، كما استخدم التنظيم مجموعة من الهجمات المتنوعة والمفاجئة للإجهاز على قوات تتفوق عليه عدديا في مناسبات عديدة عاكسا دراية عسكرية كبيرة تنافي الاعتقاد السائد حول الاستعداد الطائش للمجموعة لتلقي خسائر في صفوفها.
الهجمات الأخيرة لتنظيم الدولة في مناطق عديدة في الرمادي وتكريت وبيجي وريف الحسكة وبعض بلدات وقرى الرقة وريف حمص وحماة ودير الزور، تشير إلى أن التنظيم لا يزال متماسكا، وهو قادر على شن هجمات معاكسة واستعادة أو السيطرة على مناطق جديدة، وتفسر التكتيكات والاستراتيجيات العسكرية للتنظيم قدرته على الصمود والتوسع أحيانا، فالجمع ما بين تكتيكات «إرهاب المدن» كالهجوم بطوابير السيارات المفخخة بقيادة انتحاريين، والاستخدام المُكَثَّف لسلاح القناصة والاغتيالات قبل وأثناء الهجوم، إلى جانب أساليب الحروب الثورية التقليدية كاستخدام الوحدات المختلطة من العسكريين والمتطوعين المدربين، السريعة الكر والفر، والصغيرة العدد، إضافة إلى التكتيكات النظامية التقليدية كاستخدام المدفعية الخفيفة والثقيلة والمدرعات والدبابات، وكذلك الأنواع المختلفة من الصواريخ الموجهة وغير الموجهة أثبتت فعالية كبيرة رغم قلة العدد، ورغم أن أسلوب الحرب النظامية التقليدي للتنظيم قد تم تقويضه إلى حد كبير بفعل الضربات الجوية للتحالف، فإن التنظيم استطاع تجنب المزيد من الخسائر عبر تفريق وإخفاء الأسلحة الثقيلة وبعض العربات المدرعة والدبابات التي نجت من القصف.
إن التكتيكات الجديدة في سياق حرب الاستنزاف الذي بتبعه تنظيم الدولة، يؤكد ما توصل إليه معهد دراسة الحرب الأميركي المرموق، بالقول إن تنظيم الدولة مستعد لتحمل خسارة هذه المناطق الهامة ونجاتها بعد ذلك،فقد وجهت الولايات المتحدة القوات التي تدعمها نحو مهاجمة اثنين من أقوى خطوط الدفاع لدى العدو،وما زالت الدولة الإسلامية تسيطر على الأراضي في كلا الدولتين، والأهم من ذلك أنها ستستمر بالحفاظ على قدرتها في اختراق المجتمعات العربية السنية الواقعة تحت الحصار حتى بعد سقوط أكبر قواعدها ودفاعاتها، وتعمل داعش أيضاً على تصدير رؤيتها لمسألة الخلافة إلى فروع خارجية وتحويل أيديولوجيتها عن الخلافة من مجتمع مادي إلى مجتمع افتراضي منظم يعمل على نقل أهداف داعش بشكل مستقل عن المنظمة، وبهذا فإن هزيمة داعش في سوريا والعراق قد لا تكون كافية لهزيمة تنظيم داعش العالمي، بل تؤشر إلى تحول طبيعة الحروب من حرب المدن إلى حروب الاستنزاف.
الراي 2017-10-02