الخذلان الأميركي للأكراد.. دروس وعِبر
أحسب ان الحس بالصدمة العميقة، ومشاعر الخذلان الساحقة، طغت على كل ما عداها لدى المبتهجين بنتائج الاستفتاء في كردستان العراق، وان المرارة عقدت حلوق الملايين منهم، وهم يستمعون الى تصريحات وزير خارجية الولايات المتحدة القائلة؛ ان اميركا لا تعترف بالاستفتاء الأحادي لاستقلال كردستان، وان التصويت والنتائج يفتقران الى الشرعية. ولا يقلل من وطأة هذا الموقف الثقيل على اسماع الكرد، دعوة ريكس تيلرسون جيران العراق الى عدم الاقدام على اي خطوة احادية، والامتناع عن استخدام العنف، والتركيز على محاربة "داعش".
من المرجح ان المسؤولين في اربيل سيواصلون صمتهم ازاء هذا الموقف الاميركي المقوض لطموحاتهم الاستقلالية، وان احداً منهم لن يعبر علناً عن الشعور بالغدر حيال هذا القصف السياسي العنيف لواحد من اعز امانيهم القومية، اذ يكفيهم ما هم فيه من حصار وعقوبات وتهديدات تحيق بهم من اربع جهات الارض، وما يكابدونه من عزلة سياسية اشد قسوة من الحصار المادي، خاصة وان الخطاب الكردي لا يزال متسماً بالهدوء، ويدعو الى التهدئة، معولاً على عامل الوقت، كي تتمكن حقائق الاستفتاء من الدفاع عن نفسها بنفسها في نهاية المطاف.
ومع ان في الموقف الاميركي هذا شيئاً من التوازن الدقيق، وفيه ما يشبه الخطوط الحمراء ضد تعريض كردستان الى مخاطر الاجتياح، الا ان النقطة الجوهرية فيه تبقى مرتكزة على رفض واشنطن الاعتراف بالمنجز الكردي الابرز، ونعني به الاستفتاء الممهد للاستقلال، حيث تماهت سياسة الدولة العظمى الوحيدة، يا للمفارقة، مع الموقف الايراني، ناهيك عن موقف انقرة وبغداد، الامر الذي تجلى فيه تزاوج نادر بين الاضداد، واصطفاف قل نظيره بين المتنافسين المتباغضين، على امر واحد، الا وهو انكار حق الاكراد في تقرير المصير.
واذا كان صحيحاً ان الاكراد المتحالفين مع اميركا في العراق وسوريا بلا اي تحفظ، وعلى طول الخط المستقيم، سوف يأخذون العبرة المناسبة من هذا الانقلاب الاميركي عليهم، حتى لا نقول قلب الطاولة على رؤوسهم، باعتبارهم مجرد ورقة مؤقتة الاستخدام، فإن من المفيد امعان النظر ملياً من جانب العرب وغيرهم من شعوب الارض، في الدرس الثمين الذي قدمته الادارة الاميركية للجميع دون استثناء، ومفاده ان الدول الكبرى ليس لديها صداقات، وليس عندها مبادئ ثابتة، وانها تبدل سياساتها كما يبدل الانسان قميصه في فصل الصيف الحار.
في الحالة الأميركية التقليدية، يبدو الموقف أدهى وأمر مما هو جارٍ عليه الامر لدى الدول الكبيرة الأخرى، حيث لا تكف واشنطن عن الانتقال من النقيض الى النقيض بلا مقدمات، وعن تكرار نفسها المتحللة من المبادئ دون حرج او شعور بالخشية والارتباك، يصاحبه في اغلب الاحيان قلة احترام للالتزامات، وتنصل من التعهدات المقطوعة على رؤوس الاشهاد، ولعل اوضح الامثلة على ذلك تبني الادارات الاميركية المتعاقبة لإقليم كردستان، ودعمه مادياً وتغطية كيانه السياسي شبه المستقل، قبل ان تنقلب عليه هكذا، وتطعنه في الظهر طعنة نجلاء.
من المبكر معرفة الكيفية التي ستتعامل بها اربيل مع هذا الموقف الاميركي في مستقبل الايام، لا سيما أن خياراتها قليلة، واوضاعها حرجة، وحلفاءها كالعملة النادرة، الا ان من المرجح ان يستثمر الاكراد ما امكنهم في الخط الاحمر الذي رسمه تيلرسون ضد احتمال استخدام القوة ازاء الاقليم الذي قطع النهر، ولم يعد في وسعه العودة الى الوراء مهما كانت الاثمان، وهو ما يمكن ان يشكل تعويضاً ملائماً بالحد الادنى، ويؤسس لواقع سياسي غير معرض للاستهداف في المدى المنظور، ومواصلة الرهان على حدوث متغيرات اقليمية غير مستبعدة على اي حال.
غير ان من المناسب لنا نحن العرب، الذين نضع كل بيضنا في السلة الاميركية دون تحسب، ونتكل على حسن فهم واشنطن لأوضاعنا، وسعة أفقها، واستقامتها في معالجة مشاكلنا المعقدة، ان نستخلص العظة، وان نأخذ العبرة من الدرس الكردي البليغ، بان نبني على الشيء مقتضاه، خصوصاً ونحن نتهيأ لاستقبال ما يسمى بـ"صفقة القرن" التي قد تغدر بنا في وضح النهار، على نحو ما غدر عراب اقليم كردستان بآمال قوم انخرطوا في قتال اميركا ضد "داعش" حتى النفس الأخير، ثم حصدوا هذا الهشيم.