قمر ضائع
من حسنات المُدن أن قمرها يبدو أكبر وأوسع وأقرب من قمر القُرى، وهذه حقيقة علمية تنتج عن خدعة بصرية بسيطة، فالعين حينما تراقب بدر المدينة المشرق؛ فإنها تقارنه بالبيوت الصغيرة من حوله، ولهذا سيبدو كبيراً. أما في القرى، فالقمر يبدو صغيراً؛ لأن العين تقارنه بالجبال التي طلع من بينها. وسيبقى القمر قمراً، لمن يريد أن يقرأه بحب وتأمل.
سمي البدر بدراً؛ لأنه يبادر بالشروق والشمس ما زالت في صحن السماء. وهذا البدر رغم بهائه وضيائه وعملقته لم يكن يعجب العشاق القدماء، فقد كانوا لا يحبونه سواء كان عمانياً واسعاً، أم عجلونياً ضيقاً، لأنه كان يحرمهم من حبيباتهم، ويفضح لقاءاتهم السرية بهن، كما أنهم يفلسفون الأمر على أن من يلتقي بقمر أرضي وضّاء، كيف له أن يطالع صفحة السماء، محدقاً بقمر بعيد المنال، ولهذا فلا جمال أو منطق أن يسمى بقمر العشاق، أو ما شابه ذلك.
بعض الفلكيين يسمون بدر هذه الليلة بقمر الحصادين، وهي تسمية لا تلائم واقعنا وطبيعة منطقتنا؛ لأننا على بوابة الشتاء، فلا حصاد ولا رجاد (جمع السنابل المحصودة، ونقلها إلى البيدر من أجل الدرس). وقد يكون أن التسمية جاءتنا مترجمة، لأن هذا الوقت يكون حصاداً في بعض دول شرق أسيا، أو أمريكيا اللاتينية، حيث كان يمنحه البدر فرصة متابعة العمل ليلاً، بفضل نوره الوفير.
في هذه الليلة التشرينية سيكتمل قمرنا بدراً، وسيتعملق كرغيف، وسيكون قريبا ومثيرا فتكاد تلمسه أصابعنا، ولأننا لا حصيدة لدينا، ولا قمح زرعنا، فسيعجبني أن أسامر قمري الممتلئ بعيداً عن المدينة، حتى لو خسرت بعضاً من حجمه، لأتفقد قمح قلبي من جديد، وأكيله صاعاً صاعاً.
ما يروقني أكثر من التسميات والتشبيهات، أن إحدى النظريات الفلكية الجرئية تدّعي أن القمر كان قطعةً من أمه الأرض، ثم انفصل عنها، لكنه ظل يدور حولها ومعها ولا يفارقها، وحتى الآن، ما زال يحاول كلما اقترب أن يسحب شيئاً من الماء إليه، علّ الحياة تدبّ فيه، ولهذا كان المد والجزر.
أخذتنا الحياة بضوضائها وأنوارها الصاخبة، فلا أحد يجرؤ ويرمي الريموت من قبضة يده، ويخرج ليسهر مع بهاء الليل، وقمره الوحيد القريب قاب همسة يجوب السماء المندية بالغيوم الشاطحة. ربما بتنا لا نلقي بالاً للقمر الممشوق، ولا نرفع رؤوسنا لقراءة السماء. فالظاهر أن سرعة الحياة تنسينا أنفسنا وتسرقنا منا، فليس هناك أضيع من قمر كبير في مدينة صاخبة.
الدستور 2017-10-05