المصالحة الفلسطينية.. متفائلون هذه المرة
بقدر ضئيل من الحذر، ومعرفة لا بأس بها بتعقيدات الحالة القائمة، نستقبل اخبار المصالحة الفلسطينية بجرعة من التفاؤل هذه المرة، التي تبدو فيها داينميات عملية انهاء الانقسام تعمل بقوة دفع جديدة، احسب انها لم تكن تجري في السابق بهذا الزخم، المتولد من معطيات تتجاوز نطاق العواطف والنوايا والمجاملات، التي كانت تفور وتخبو بين الحين والآخر، لتحل محلها اليوم حقائق الواقع المريرة، وضغوط الجوار الثقيلة، المعطوفة على تحولات سياسية لا سابق لها، وهو ما يمكن معه الاستنتاج ان الامر جدي جداً لأول مرة، ولا شبيه له على مدى السنوات العشر الماضية.
لقد كان كاتب هذه السطور واحداً من بين اشد القانطين من تحقيق المصالحة في المدى المنظور، وكان اكثر الناس تطيراً ازاء كل حديث عن انهاء الانقسام، الذي ألحق بالقضية الفلسطينية ضعفاً لم يتسب به اي شيء آخر، وكان بمثابة نكبة جديدة في قلب النكبة القديمة، حيث كان يرى ان عقارب الساعة لن تعود الى الوراء، وان الانقسام عاهة مستديمة اخرى يحسن التعايش معها، شأنها شأن العديد من العاهات التي اصابت القضية، ولولا الخشية من سوء الفهم لقلنا بالفم الملآن في حينه؛ دعوا " حماس" تجرب حظها في ادارة القطاع المحاصر براً وبحراً وجواً.
اذن، ما الجديد الذي غيّر المقاربات السابقة، وصار يبعث على التفاؤل هذه المرة؟ وما الذي يحمل المرء على اجراء تقدير موقف مختلف، والنظر بإيجابية الى المشهد الذي لم يكتمل بعد، ومن ثمة اعتبار الامر جدياً، على عكس ما كان عليه الحال في السوابق الفاشلة؟.
قد يردّ البعض هذا التفاؤل غير المفرط الى عوامل كثيرة، منها المراجعات التي اجرتها "حماس" على رؤيتها السياسية المتماثلة الى ابعد الحدود مع الرؤية الفلسطينية الرسمية (الوثيقة التي تقبل فيها بدولة على حدود الرابع من حزيران) وقد يعللها البعض الآخر بحصول متغيرات ملموسة في البيئة الاستراتيجية المحيطة بالحركة الاسلامية، وقد ينسبها البعض الثالث الى تشكل ضغوط مصرية هائلة لا قبل للحركة القائمة بسلطة الامر الواقع في غزة على تحملها، ولا يسقط الكثيرون من حسابهم انتخاب قيادة حمساوية شابة متمركزة اساساً في القطاع المحاصر.
دون ان نسقط من الحساب كل تلك المراجعات والمتغيرات والحسابات، فإن هناك من يعتقد ان امراً اشد اهمية وقف وراء هذه الاستدارة، التي املت على حركة حماس اجراء هذا التحول الكبير في سياساتها التقليدية، القائمة على مبدأ شراء الوقت، والرهان على تبدل الظروف الاقليمية لصالح مشروعها الانفصالي في غزة، مع ممارسة اقسى درجات الصبر على المصاعب، والتحمل والانتظار والمكابرة، لعل الرياح المواتية تأتي اليها بما يستحق كل هذا الصبر على ظلم الاقربين، ويكافئها على الوقوف في ممر الماراثون كل هذه سنوات العسيرة الطويلة.
واحسب ان العامل الأكثر اهمية من كل ما عداه من عوامل اخرى، كامن في ما يمكن ان نسميه انقلاب "حماس" الثالث على نفسها هذه المرة، بعد الانقلاب الاول على السلطة الفلسطينية عام 2007 عندما انفردت بحكم قطاع غزة، وكان انقلاباً دامياً بكل معنى الكلمة، وبعد انقلابها الثاني في بدايات ما عرف باسم الربيع العربي، وكان على حلفائها في ما يسمى محور الممانعة، وكان حسناً في مغزاه حقاً، وها هي الحركة المجاهدة تفعلها مرة ثالثة على الحركة الام المصرية، وعلى آخر مؤيديها في الخليج وفي تركيا، وسط دهشة مختلف فروع الحركة الاخوانية.
اذ يبدو اننا امام قيادة مختلفة عما عهدناه من قيادات لدى هذه الحركة، التي خسرت كل رهاناتها، وانقلبت على كل حلفائها، وفشلت في ادارة حكمها لقطاع غزة، ان لم نقل انها جرّت على القطاع ثلاثة حروب مدمرة، واعادت الحياة في اكثر بقاع الارض ازدحاماً وبؤساً الى ما دون مستويات الحياة الآدمية، فما كان من قيادتها الشابة، التي يبدو ان اعتباراتها الوطنية ترجح على ولاءاتها العقائدية، إلا أن تفاجئ نفسها بنفسها، وتقلب الطاولة على الصورة المتشكلة عنها كحركة تسعى الى اقامة إمارة في آخر أرض تبقت بين يدي جماعة الاسلام السياسي، الذي دارت عليه الدوائر، وغرُبت شمسه.
الغد 2017-10-06