الموهبة والعبقرية: اختراع لا اكتشاف (8 - 11)
يقول عالم الأعصاب والموسيقار دانيال ليفنين، أنه نتيجة للغموض اللغوي المحيط بفكرة الموهبة، أصبحت الفكرة مجرّدة تماماً في التاريخ الإنساني كله، إلى أن جاء الباحث انديرس ايركسون وفريقه من الباحثين لينتقلوا ببحوثهم من اللامحسوس إلى المحسوس، ففي العقود الثلاثة الأخيرة، وكغيرهم من العلماء الجيدين، اتخذوا منهجاً بتفتيت الإنجازات الرياضية، والفكرية، والعلمية... إلى أجزاء صغيرة قابلة للقياس وفصل القمح من الزوان، أو الجيد من السيئ، والجيد من الأجود، والأجود من الاستثنائي، فقابلوا وسجلوا وتفحصوا ودققوا.
لقد قاسوا كل شيء بدءاً من النّفَس، مروراً باستجابة العضلة، ووظيفة بطين القلب.. وانتهاء بالذاكرة. كما راقبوا مهارات العظام (bones) لسنوات عدة وبمرور الوقت برزت صورة ليست كاملة تماماً، ولكنها كافية من الوضوح لرؤية عملية (Process) أصغر الأجزاء المتحركة في الخلايا التي تدفع إلى التحسن في الأداء.
ومن أجل الساعين إلى التفوق أو العظمة نلخّص فيما يلي نتيجة ما وصل إليه ايركسون وفريقه:
• يُحدِث التمرين (Exercise) في استجابة مباشرة له، تغييراً في العضلات والأعصاب، والقلب، والرئتين ، والدماغ... عند كل زيادة قوية في مستوى المهارة في أي ميدان.
• يجب أن تكون المهارة محددة، فالأفراد العظماء أو المتفوقون في مهارة معينة، لا يصبحون عظماء أو متفوقين في مهارات أخرى، أي أن مهاراتهم في ما تفوقوا فيه قد تبقى عادية في كل شيء آخر. إن التغيرات الجسمية والعقلية استجابات متخصصة جداً لمتطلبات مهارة معينة، بمعنى أن طبيعة المهارة تفرض على الجسم والعقل التغيرات اللازمة لإتقانها.
• والتغيرات في الدماغ هي الأكثر عمقاً عند الرياضيين، جنباً إلى جنب زيادة قوية في المعرفة الدقيقة للمهارة أو العمل، والانتقال من تحليل الوعي إلى التفكير الحدسي (توفيراً للوقت والطاقة) وإلى مراقبة ذاتية وفذلكة تمكن الفرد من إجراء التعديلات/ التكيفات الفورية في الوقت الحقيقي.
• أسلوب التمرين/ التدريب حاسم: إن التمرين العادي حيث تتعزز مهارتك الراهنة لا يكفي. لتصبح أفضل فإنك بحاجة إلى نوع خاص من التمرين لإجبار دماغك وجسمك على إجراء التغيير الضروري للتحسن المطلوب.
• التمرين الكثيف القصير المدى (كما يفعل الرياضيون العرب قبيل المباراة أو المنافسة) لا يحل محل الالتزام بالتمرين الطويل المدى، لأن كثيراً من التغيرات الحاسمة في الدماغ والجسم تحتاج إلى فترات طويلة من الوقت لتحدث فسيولوجياً. من المستحيل أن تصبح عظيماً أو متفوقاً بين يوم وليلة.
وبالتمعن في هذه الشروط نجد أن أسلوب التمرين، ومدة التمرين (المثابرة) شاملان وحاسمان بدءاً من لعبة الدارت (Dart) مروراً بلعبة كرة القدم أو السلة... وانتهاء بالعزف على آلة موسيقية أو ببحث في العمق من أجل اكتشاف فيروس أو دواء لمرض عضال.
ويسمى ايركسون هذين الشرطيين بالتمرين المتروي (Deliberate Practice) وهو مصطلح ظهر لأول مرة في سنة 1993 في مجلة علم النفس (Psychology Review) وهو تمرين يختلف عن العمل الشاق لأنه شكل خاص من النشاط المختلف عن مجرد التمرين أو اللعب بدون تفكير، فالتمرين المستدام يؤدي إلى تحسن مستمر في المهارة، وبخلاف الانغماس اللعوب مع الأقران في تمرين أو نشاط، فقد يكون التمرين المتروي غير ممتع بالضرورة، لأنه ليس مجرد تنفيذ أو تكرار للمهارات المكتسبة سابقاً، بل محاولات متكررة لتجاوز المستوى الراهن في كل مرة المصاحَب بالفشل المتكرر أحياناً إلى الحد الذي يعتبره الفرد نجاحاً.
إن مجرد اللعب الكثير في الشطرنج أو الجولف، أو العزف أو أخذ دروس منها عند معلم مدهش لا تكفي، وأن مجرد الرغبة في المهارة مهما كانت قوية لا تكفي. التمرين المتروي يتطلب بنية عقلية لا تكتفي أبداً بالمستوى الراهن. إنه يتطلب نقداً ذاتياً دائماً وقلقا (مرضيا) وعاطفة مصرة على تجاوز ما عند الفرد من استطاعة، لدرجة الرغبة في الخيبة والفشل دون انهاء المحاولة أي الالتزام في التغير نحو الأفضل والأعلى والأقوى والأسمى.
الغد 2017-10-10