عن المصالحة بلا إحباط ولا أوهام
ارتفعت رهانات الغزيين وتوقعاتهم مع حكومة رامي الحمد الله للقطاع والتئام مجلس الوزراء في غزة، لكن انتهاء “زيارة” الرئيس ومجلسه الوزاري من دون الإعلان عن خطوات جدية من شأنها معالجة المشكلات الضاغطة على القطاع وأهله، واكتفاء أعضاء الحكومة العتيدة بتسلم وزاراتهم في مراسيم بروتوكولية حميمة، خلق مناخات من “الفتور” حيال المصالحة حتى لا نقول اليأس منها تماماً.
والحقيقة أن الحكومة الفلسطينية، شأنها في ذلك شأن معظم الحكومات في العالم العربي، ليست “صاحبة ولاية”، وليس بمقدورها اتخاذ قرار استراتيجي، لا في السياسة ولا في الاقتصاد، دع عنك أمور الحرب والسلام والسياسات الدفاعية ... ولقد أخطأ من ظن أو توهم، أن القرارات الكبرى بخصوص المصالحة ومقتضياتها وموجباتها، يمكن أن تصدر عن اجتماع لحكومة الوفاق، سواء عقد في رام الله أو غزة ... قرارات مثل هذه، تصدر فقط عن “المقاطعة”، والرئيس عباس ليس بوارد المقامرة بتبديد أوراقه، قبل أن تلتئم جلسات الحوار في القاهرة، بالرعاية المصرية، ويعرف تمام المعرفة، ويتأكد على نحو لا لبس، مما تريده حماس وتسعى في الحصول عليه وتقديمه في المقابل.
والمفروض أنها مسألة أيام، قبل أن يتصاعد الدخان الأبيض أو الأسود من “مداخن” قاعات الحوار الوطني، الضيّق والموسع على حد سواء ... وأحسب أن الرئيس وصحبه، معنيون تماماً بالحصول على وجود “فاعل” وليس “شكلياً” في القطاع ... فتح والرئيس لا يريدان للسلطة أن تكون مجرد “طربوش” تتخفى من تحته سلطة الأمر الواقع في غزة، والأهم أنهما يرفضان على نحو قاطع، أن تكون السلطة مجرد “صراف آلي” تعود إليه حماس وعشرات الأولوف من موظفيها نهاية كل شهر.
في هذا السياق، يبدو مهماً معرفة إلى أي حد ستسمح حماس بحرية الحركة والنشاط لفتح في القطاع، وإلى أي مدى ستسمح لأجهزة السلطة الأمنية بتولي مسؤوليتها، وكيف يمكن معالجة مسألة “ازدواجية السلطة” في القطاع، وما هو مصير شعار عباس “سلاح واحد وشرعية واحدة”، والذي ردّت عليه الحركة وفصائل أخرى وقيادات من فتح ذاتها بالقول: إن “سلاح المقاومة” ليس موضوعاً على مائدة التفاوض.
نحن كذلك لا نعرف إلى أي حد تصل الطموحات الخاصة بالرئيس فيما خص سلاح حماس وكتائبها، وما إذا كان يعني ما يقول عن “السلاح الواحد”، وكيف يمكنه تحقيق ذلك، وهل أمرٌ كهذا قابل للتحقيق أصلاً، أم أنه سيتعين على الفلسطينيين إعادة انتاج تجربة العلاقة بين “الدولة” و”المقاومة” في طبعتها اللبنانية، أم أن هناك صيغا أخرى مبتكرة، يجب التوصل إليها على موائد الحوار الفلسطيني والرعاية المصرية.
ثم، نحن لا نعرف إلى مدى ستصل حماس بطموحاتها على ساحتي الضفة الغربية ومنظمة التحرير، وما هي حدود “التمثيل” التي تدور بخاطرها، وهل سيقبل عباس بشريك حقيقي فاعل، هل سيقبل بالشراكة في اتخاذ القرار وصنع السياسات، وهل يحتمل مقتضياتها ومندرجاتها؟ ... مثل هذا الأمر، يحتاج لصولات وجولات من الحوار وبناء التفاهمات، نعرف أنها بدأت في القاهرة، بيد أننا لا نعرف متى تنتهي أو كيف وأين؟
وثمة ملفات تفصيلية أخرى تعيق المصالحة وتعيق اتخاذ إجراءات بناء ثقة بين الجانبين ... من بينها على سبيل المثال لا الحصر، قضية الدحلان ومصير التفاهمات التي أبرمتها حماس معه، كما أننا لا نعرف الموقف الحقيقي للوسيط المصري حيال هذه المسألة، هل طوي ملف الرهان على الدحلان؟ ... هل الرجل مطروح في سياق “سلة الفصائل” المدعوة لحوارات القاهرة اللائحة؟ .. هل أدخل الدرج بانتظار معرفة مآلات “مشروع ترامب و”صفقة القرن” التي يلوّح بها ... مثل هذه الأمور، ما زال يكتنفها كثير من الغموض، ونحن بانتظار أن تتكشف حقائق المواقف حيالها، وقبل ذلك، من المستبعد أن يذهب أي من طرفي الانقسام، بعيداً في تنازلاته وتقدماته.
ثمة حدود قصوى، أو خطوط حمراء، لا احسب أن أي من الطرفين يمكن أن يجتازها مهما عظمت إغراءات المصالحة أو تعاظمت مخاطر انفراط عقدها من جديد: عباس، لن يسمح لحماس بدور مهيمن في منظمة التحرير تحت أي ظرف كان، والمؤكد أنه لن يعطيها كامل الحرية في الضفة الغربية، خصوصاً إن تعلق الأمر بالجانب الأمني والعسكري .... وحماس، لن تفرط بقوتها الضاربة في قطاع غزة، مهما بلغت الأثمان، فهذا احتياطها الاستراتيجي، وورقتها النهائية حين تتبعثر مختلف الأوراق، وهي وإن قبلت بعودة السلطة إلى القطاع، فإنها لن تقبل بحكاية “السلاح الواحد”، جل ما يمكن أن تقدم عليه الحركة، هو تنظيم متفاهم عليه، أو “اتفاق جنتلمان”، لتنظيم وإدارة حالة “ازدواجية السلطة”، وهي لن تقبل بذلك بلا ثمن، أقله معالجة الإشكالية والتحديات، التي دفعتها لتقديم “تنازلات مؤلمة” لعباس والتعهد بـ “قطع رأس” كل من يقف في وجه المصالحة الوطنية.
تحت هذا السقف، وليس فوقه، ستدور المفاوضات وتتبلور التفاهمات، وفي ظني أن الأمر على صعوبته، يستحق المجازفة والمحاولة، بل ولا أظن أن هدفاً كهذا، عصي على التحقيق إن توفرت الحنكة والإرادة والظرف الموضوعي المناسب، وشريطة ألا نحلق عالياً في الأوهام والرهانات.
الدستور 2017-10-10