أردوغان ضد «الجميع» .. تركِيا إلى أين؟
لا يتوقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن فتح المزيد من «المعارك» مع كثير من دول العالم, احياناً بغير سبب ودائماً في محاولة إظهار «عظمة» تركيا و»استثنائِيتها» وحاجة البشرية جمعاء اليها موقِعاً استراتيجياً وحضارِيّاً، في تضادٍ مع حقائق التاريخ والجغرافيا, وضرباً في عرض الحائط بكل القواعد السياسية والدبلوماسية، وموازين القوى وتأرجح التحالفات والاصطفافات في عصرِنا المتميز بالسيولة وعدم الثبات, سواء في زمن الحرب الباردة الذي اتّسم ببعض «الثبات» كأمر واقع فرَضَه توازن الرعب بين القوتين العظميين قبل ان يبرز سيء السمعة والصيت ميخائيل غورباتشوف في الفضاء السوفياتي، ثم بعد انتهاء هذه الحرب التي زعَمَت قوى الامبريالية العالمية انها كانت لصالح الرأسمالية المتوحشة, ونسختِها الجديدة النيوليبرالية كنهاية للتاريخ.
كل هذا لم يُغيِّر كثيراً في قناعات الرئيس التركي التي يستلهِم قراءتها (هل نقول ايديولوجيته؟) من ماضي الدولة العثمانية وهيمنتها على دول وشعوب وقوميات عديدة لقرون طويلة, لم تجلب لهذه الشعوب سوى التخلّف والمهانة والإذلال وخصوصاً نهب ثرواتها وتحويلها الى مجرد خزّان بشري ومالي لغزواتِها وحروبِها التي لا تنتهي، إلا بعد أن وصلت الإمبراطورية المُحتضرة الى مأزقها التاريخي, بِتسرّب الفساد والضعف الى صفوفها, ولم يكن أمامها سوى الاستسلام والإعتراف بالهزيمة التي كان بمقدورها تجنبها أو التقليل من فداحة أكلافها لو انها اخذت بتعاليم «الإسلام» وسماحته, وهي التي كانت تتدثّر به وترفع راية «الخِلافة»، ولم يكن ذلك سوى قناع لممارسة قمع الشعوب التي غزتها وتمكّنت منها.
ما علينا..
آخر حروب الرئيس أردوغان هي الأزمة (المتدحرِجة.. كما يبدو) التي افتعلها, مع مَن سارَع أو تسرّع المحللون في اعتبارها الحليف الجديد لتركيا بعد ان خطى الطرف التركي خطوة غير مسبوقة في اتجاهها ونقصِد روسيا الإتحادية, ليس فقط كشريك ضامن في الازمة السورية اضافة الى ايران وروسيا(مسار استانا) بل وايضا في شراء منظومة صواريخ s400 التي اثارت حفيظة شمال الاطلسي واستياءه, ناهيك عن تمديد خط الغاز الروسي المعروف بـ»السيل الجنوبي» و«الإنسجام» الذي بدا لافتاً بين أردوغان والرئيس الروسي بوتين, خلال زيارة الاخير لأنقرة وما قيل عن اتفاقيات عديدة تم توقيعها.. الى درجةٍ دفعت بمحللين غربيين توقّع خروج انقرة من حلف شمال الاطلسي, وبخاصة بعد الازمة المفتوحة التي ما تزال اصداؤها تتردد في فضاء العلاقات الاميركية التركية, بالتعليق المُتبادَل لتأشيرات دخول مواطني البلدين الى اراضي كل منهما.
شيء من تلك التوقعات لم يتحقق – حتى الآن – ولا يبدو انه سيتحقّق كون سياسة الرئيس التركي ومواقفه لا يتوقفان عن التبدّل والإنقلاب, ما يحول دون الخروج باستنتاجات او توقعات يمكن للمرء ان يبني عليها سياسات تتصف بالثبات النِسبي على الأقل. لهذا لم يكن التراشق الاعلامي (الذي ما يزال خجولاً وإن بِحدّة حتى الآن) بين موسكو وأنقرة, حول شبه جزيرة القرم وإعلان اردوغان من العاصمة الاوكرانية كييف «أن تركيا تدعم سيادة أوكرانيا ووحدة اراضيها, ولن تعترِف بتبعية شبه جزيرة القرم الى روسيا الاتحادية»، لم يكن هذا التراشق الاعلامي مفاجئا لموسكو على وجه الخصوص, وهي التي «رصدَت» منذ ثلاث سنوات وما تزال, محاولات تُركية لإثارة «تتار» القرم, التي تقول انهم من اصول تركية وثمة شواهد وأدِلّة لديها على دعمها لهم بالاموال والسلاح واحتضان قادة المتمرِدين منهم.
موسكو التي لم يتأخر ردّها, قالت على لسان احد اعضاء مجلس شيوخها (مجلس الاتحاد الروسي): «سواء اعترف اردوغان بتبعية القِرم الى روسيا ام لا، لن يتغيّر بذلك وضع القِرم، انه يعرف ذلك ويفعل ما يُرضي بورشينكو..لا أكثر».. بالطبع دون إهمال المواقف الحاسمة التي اعلنها الرئيس الروسي بوتين مراراً وتكراراً, بل ألمح ذات مرة, انه لن يتردّد في استخدام كل ما في «ترسانة» بلاده للإبقاء على القرم في اطار الاتحاد الروسي, وكانت العبارة الأكثر تشدّداً في تصريحاته العديدة منذ ثلاث سنوات: «..مسألة عودة القرم الى روسيا أُغلقت نهائياً، وعودة القرم جزءاً من الأراضي الأوكرانية.. غير وارِد».
وإذا ما أخذنا في الاعتبار تلويح أنقرة بإلغاء صفقة صواريخ s400 ,اذا لم يتم نقل التكنولوجيا الخاصة بها الى تركيا, وهو امر لا نحسب ان موسكو تقبل به تحت اي ظرف، فضلا عن الأزمة العميقة بين تركيا والاتحاد الاوروبي ودور انقرة في الازمة الخليجية وارتفاع منسوب «العسكرة» في علاقاتها الدولية بافتتاحها قاعدتين عسكريتين, الاقدم منهما في قطر والاخرى في الصومال, اضافة الى ما بدا عليه المشهد بعد ان دخلت قوات «استطلاع» تركية الى مدينة إدلب السورية بحماية من جبهة فتح الشام/النصرة، ما يؤشر الى طبيعة العلاقة الودّية والعميقة مع هذا التنظيم الارهابي، التي انيط بتركيا مهمة «تحرير» إدلب من شروره، والعداء التركي لطموح الكرد في الإستقلال,إضافة إلى ما يحدث في الداخل التركي من مطاردات وقمع وتنكيل واعتقالات وطرد من الوظائف, تطال العسكريين والقضاة والصحفيين, فاننا نكون بالفعل امام سياسة لا تتّسِم بالثبات او يمكن الرهان عليها.. لكن السؤال يبقى: الى اي مدى يمكن لأنقرة أن تُواصِل انتهاج سياسة مُتناقِضة... كهذه؟ والى أي مدى يمكن للدول الاخرى.. صغيرها والكبير, ان تطمئِن الى دبلوماسية مُتقلِّبة ومواقف لا ثابت فيها إلاّ... «غير الثبات»؟.
الراي 2017-10-11