قيامة أرطغرل
التاريخ ليس لعبة الأقوياء فقط. هو قلمهم ودفترهم إذ يعيدون رسم الأحداث كما تشتهي مخيلتهم أو أموالهم أو طموحاتهم. التاريخ أكثر كائن مشوه على وجه الأرض. فكم من شعوب طمست أدراج النسيان؛ لأن قلما لم ينبر لينصفها محمياً بسيف ودرهم. وكم من أوجاع نسيت؛ لأنها لم تجد من يكشط عن بوحها طبقات التراب.
في زمن ليس بعيداً قالوا: (من لم يكن له كبير؛ فليشتر له كبيرا). وفي أزمنة المسلسلات الطويلة الفضفاضة ذات المواسم لربما ينطبق بعض القول حينما نرى شعوباً تعيد رسم تاريخا وتتناوله بالقداسة والتبجيل. وأنا هنا لا أنكر على الناس بطولاتهم، ولكني أدعو لاحترم الحقيقة.
تابعت عبر (يوتيوب) حلقات متناثرة من المسلسل التركي (قيامة أرطغرل)، الذي بدأ عرضه قبل ثلاث سنوات، وما زالت مواسمه تتوالى. المسلسل مذهل بكثير من المقايسس الفنية، لكنه أجحف بحق الحقيقة، وشوه كثيرا من مساراتها.
يسرد المسلسل جزءا من حياة أرطغرل بن سليمان شاه. والد عثمان مؤسس الإمبراطورية العثمانية. الأحداث تدور مطلع القرن الثالث عشر الميلادي، بأجوائه الملبدة بالأحداث الجسام. فالقدس ما لبثت أن وقعت في قبضة الصليبيين بعد حطين. والمغول يواصلون زحفهم الجرادي نحو الشرق، والحملات الصليبية لم يهدأ هبوبها من الغرب.
أعجبتني قدرة المؤلف (محمد بوزداغ) في الولوج إلى تفاصيل زرعت المشاهد في متن الأحداث بتشويق. وأعجبتني مهارة الممثلين (يبدوا أنهم تلقوا تدريباً صارماً) بضرب السيوف والرماح والأقواس. وهالني الخط الدرامي الذي وهجه المخرج (متين غناي) ليظل قادرا على مباغتتنا. والأهم الأداء الاسطوري للممثل (أنجين التان دوزبان) بدور أرطغرل.
يسلسل لنا العمل كيف استطاعت قبيلة (الكايلار) التركية، وهم من أسيا الوسطى أن تفرض موطئ قدم في الأنضول، وتهيئ نفسها لدولة تصبح من بعد إمبراطورية. ومع حق الأتراك (المسلسل ممول من حزب العدالة والتنمية كما قيل) بهذا الشيء، إلا أن المسلسل كسر رقاب كثير من الحقائق، ونحرها على مذبح السطحية أو التجني أو التغافل.
ظهرت الدولة الأيوبية هزيلة، وأميرها العزيز أحد أحفاد صلاح الدين الأيوبي بلا حول أو قوة. والأنكى أن المسلسل زج بشخصية (ابن عربي) الصوفي الأندلسي الشهير، من أجل إضفاء الصبغة الدينية أو القداسة حول نشأة هذه الدولة.
الأتراك يسعون مثل كثير من الأمم البازغة إلى إعادة قراءة التاريخ لصالحهم، وإلى تجميله ونبذ زوانه وغثه، وتسمين سمينه أكثر مما ينبغي. وأتوقع أن تتوالد كثير من المسلسلات حول قادتهم العظام، من عثمان حتى عبدالحميد الثاني.
وسيبقى العرب في سكون المتفرجين تائهين بين ماض مغيب مسكوت عن جميله وقويه، ومستقبل أغبر تتلاطمه المعضلات من كل الجهات.
الدستور 2017-10-26