بلفور.. الاحتجاج المقموع والاحتفال المتجدد
لا توجد مؤشرات أنّ الذكرى المئوية لوعد بلفور، هذا الأسبوع، ستشهد موقفا فلسطينيا أو عربيا يذكر.
يذكّر مشهد وعد بلفور، والفعاليات المصاحبة له هذا العام، بحالات الصعود والهبوط التي عاشها العرب بعد هذا الوعد، والذي تمثل في رسالة وجهها وزير خارجية بريطانيا، آرثر بلفور (1848 - 1930)، إلى وولتر روتشيلد، (1868 - 1937) زعيم اليهود في بريطانيا، في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1917، يعده بدعم تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين. (هناك من يحتج على وصف وعد ويفضل لفظ إعلان، وسأعود لذلك بمقال لاحق).
هناك عدة مراجع تعاملت مع ردود الفعل المبكرة عند صدور وعد بلفور. فعدما وضع حجر الأساس للجامعة العبرية، في القدس، عام 1918، شارك عدد من الشخصيات الفلسطينية الدينية الإسلامية والمسيحية والبلدية، وعرب آخرون، في الحفل، على أساس أنّ المخططات الصهيونية والبريطانية، لم تكن واضحة، وأنّه ربما يمكن تغيير هذه المخططات بالوصول لتفاهم. ولكن في العام 1925، عندما افتتحت الجامعة، تكرر ذات الشيء. وكما تلخص رسالة ماجستير، أعدها ابراهيم سيف، نقلا عن عدة مصادر، قررت جهات رسمية عربية وفلسطينية المشاركة بحفل الافتتاح، وتمّ حينها انتداب رئيس الجامعة المصرية (جامعة القاهرة لاحقا)، أحمد لطفي السيد، للمشاركة بالحفل، ما استدعى ردة فعل شعبية رافضة. وقررت الحكومة المصرية حينها اعتقال من يخرج للتظاهر ضد هذا الافتتاح وهذه المشاركة، وقد رأى المعارضون للقرار، يوم وصول آرثر بلفور للمشاركة في الافتتاح، موعداً مناسباً للاحتجاج والتظاهر.
لم تبتعد ردود الفعل الصهيونية الرسمية حينها، عن ما يقوله القادة الإسرائيليون الآن، من مزاعم، أنّ الحكومات العربية "المعتدلة" لا تعاديهم. فعلّقت حينها صحيفة "بالستين ويكلي" الصهيونية والتي كانت تصدر باللغة الانجليزية على حضور السيد للحفل بقولها: "إن حضور مندوب مصر هذه الحفلة كان الدليل على أن مصر المسلمة العاقلة لا ترى في الصهيونية رأي أهل فلسطين". ونفّذت الحكومة المصرية وعيدها، فاعتقلت أفرادا خرجوا للتظاهر، أثناء مرور بلفور بالقاهرة، قاصداً الجامعة.
كانت تلك المحطة مثالاً على التباين عربيّاً بين الرسمي والشعبي، في كثير من المحطات الخاصة بفلسطين. وبحسب ما جاء في أطروحة سيف، صارت ذكرى "الوعد" موضوعاً للاحتجاجات السنوية، وفي مصر تحديداً كان الاحتجاج في الذكرى السنوية، محطة من محطات تطور الحركة الوطنية المصرية، وإعطائها بُعدها العروبي.
قبل أسابيع، أطلعتني الدكتور سلمى الخضراء الجيوسي، على نسخة من كتاب صادر ومطبوع في ثلاثينيات القرن الفائت، من إعداد والدتها، اللبنانية الأصل، أنيسة سليم، تقوم فيه بتوظيف أغاني التراث الشعبي الفلسطيني والمشرقي، وتغيير في الكلمات بهدف هجاء هذا الوعد، ورفضه. وقد تحولت لأهازيج تطلق بالمناسبات، و"تُغنى" في فلسطين ودول عربية أخرى.
لقد كانت صدمة بالتأكيد للكثيرين، انّه بدل أن تعتذر بريطانيا هذا العام، عن اعلانها/ وعدها، وما سببه للفلسطينيين من نكبات، أن تعلن رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، أنّ حكومتها "ستحتفل بفخر" بهذه الذكرى. وفي الوقت ذاته فإنّ الصهاينة، احتفلوا بطريقة لا تخلو من النشوة المخلوطة بالسخرية، (ربما من العالم كله)، وعلى سبيل المثال، وقف هذا الأسبوع، وبطريقة استعراضية، نائب رئيس المنظمة الصهيونية العالمية، ياكوف هاغول، أثناء حضوره مؤتمرا في لندن ضد اللاسامية، لالتقاط الصور، وهو يضع في صندوق البريد البريطاني الأحمر اللون التقليدي، رسالة معنونة لبلفور ذاته (مرسلة لعنوان عائلته)، يشكره فيها على الوعد، ويعتذر عن تأخر إرسال هذا الشكر. وقد اختارت صحيفة "جيروزالم بوست" الإسرائيلية، أن تقوم بمزيج غريب، إذ قامت بنشر صورة ارسال الرسالة وخبرها، في تقرير واحد، عن احتمالات وطموحات اسرائيلية للتعاون مع رجال أعمال سعوديين، ومصريين، وأردنيين.
بقدر ما أن ردود الفعل العربية والفلسطينية، في هذه الذكرى، تبدو أقل كثيراً من المتوقع، فإنّ هذا الترهل ربما يكون ناقوساً يسترجع عقودا من الرفض والمقاومة، التي تجذرت في الوجدان، لانطلاقة جديدة، فعدم الفعل هو مدعاة للغضب أحياناً، ولمراجعة الذات.
الغد 2017-10-27