ميادين جديدة للحروب
من أكثر القضايا التي شغلت الرأي العام الاميركي خلال الأشهر الماضية، قضية التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الاخيرة، فالمعلومات التي تسربت وما تزال ترشح عن حجم هذا التدخل ومدى تأثيره كانت صادمة للأميركيين على كافة المستويات الذين باتوا موقنين ان الروس قد قاموا باختطاف هذه الانتخابات، الامر الذي دفعهم الى تشكيل عدة لجان للتحقيق بعضها نيابي والآخر أمني، بل وصل الامر الى تعيين محقق خاص، من خلال رئيس "اف بي آي" الاسبق روبرت ميلر، ومن المتوقع ان تطيح هذه التحقيقات برؤوس كبيرة، قد لا يكون رأس الرئيس ترامب بمنأى عنها.
لكن اكثر ما لفت نظري في هذه الضجة، تقرير لصحيفة نيويورك تايمز والذي استند الى ما حصلت عليه لجان التحقيق من خلال الشركات المالكة لمواقع التواصل الاجتماعي مثل الفيس بوك وتويتر وغوغل، حيث سلمت هذه الشركات آلاف المواد، بعضها مواد دعائية مدفوعة من قبل حسابات وهمية، تأتي على شكل مواد اخبارية إما ملفقة أو مبالغ فيها، تم توجيهها بذكاء لشرائح معينة من الأميركيين، تتناول قضايا حساسة ومثيرة للجدل ينقسم حولها المجتمع الاميركي، لتعمل على تعميق هذا الانقسام الذي وجدت فيه بيئة خصبة لتقبل ما يعزز قناعات ومخاوف مسبقة، فقد ركّزت هذه المواد على قضايا عنصرية، كالأقليات والهجرة والإسلاموفوبيا وأخرى اجتماعية، كالإجهاض وحمل السلاح وغيرها من القضايا التي ينقسم حولها الرأي العام الاميركي، وقد لا يكون من باب المصادفة أن العسكريين والمتقاعدين كانوا من ضمن الفئات الاكثر استهدافا.
قد يكون أحد أهداف هذه الحرب ترجيح كفة مرشح رئاسي على آخر، لكن الهدف الرئيسي يكمن في خلق حالة من الفوضى والانقسام المجتمعي تؤدي الى إنهاك واضعاف البلد وإشغاله بنفسه كي تخلو ساحات القضايا الساخنة الأخرى لمصلحة الروس وغيرهم من اللاعبين الذين يدورون في فلكهم.
لقد نجحت المخابرات الروسية (ولو مرحليا) باستخدام سلاح المعلومة وبكلفة متواضعة في تحقيق انتصار تكتيكي كانت ستفشل فيه كل ترسانتها الحربية، الأمر الذي دفع مستشار الرئيس الروسي لتشبيه نجاحهم في حرب المعلومات، بنجاحهم في الحصول على اسرار القنبلة النووية العام 1948 حسب تقرير للواشنطن بوست.
لطالما حلم الروس من خلال "الاتحاد السوفييتي" ابان الحرب الباردة في التأثير في الرأي العام الغربي باستخدام سلاح البروباغاندا لكنهم فشلوا في ذلك فشلا ذريعا، وكانت الغلبة لأميركا وحلفائها الذين استغلوا تفوقهم في مجال الإعلام لإحداث شرخ كبير في المجتمع السوفييتي ساهم لاحقا في انهيار الاخير وربما وجد الروس ضالتهم في الـ"بروباغاندا الالكترونية" لرد هذا الدين.
من السذاجة الاعتقاد بأن الروس وحدهم من يستخدم المعلومة كسلاح ضد خصومهم، أو أن الساحة الاميركية هي الساحة الوحيدة التي يستخدم فيها هذا السلاح، ولعل جولة سريعة على مواقع التواصل الاجتماعي في منطقتنا، وملاحظة حجم السموم التي تمتلئ بها، توصلنا لقناعة ان ساحتنا لا تقل استهدافا، وان بيئتنا لا تقل تقبّلا، وان خصومنا لا يقلون دهاء ومكرا عما حدث في الولايات المتحدة، وما الانقسامات العميقة التي تعاني منها مجتمعاتنا إلا دليل على ذلك، ومن لا يرى هذه الحرب فهو بلا شك أعمى.
الغد 2017-10-28