يا أيها اليمن المنسيّ.. !
عاد اليمن المنسيّ إلى واجهة الحدث مع جائحة الكوليرا التي وجدت في مواطنيه فريسة مستسلِمةً، لتضيف فقط إلى تدهوره المتواصل منذ "الربيع اليمني"، ليشكل واحدةً من أسوأ بؤر العنف والبؤس في المنطقة والعالَم، ملتحقاً بسورية والعراق وليبيا في مسيرة الدول الفاشلة. ومثل كل هذه الدول العربية المضروبة بالدمار والجوائح، تسبب تدويل الأزمة المحلية واستعمال البلد الفقير ساحة "حروب بالوكالة"، في تعقيد الصراع الأصلي وجعله غير قابل للحل تقريباً.
اليمن "السعيد" سابقاً، كان يوصف -حتى قبل التدهور الأخير- بأنه واحد من أكثر الدول العربية تخلفاً، بسبب سوء إدارة الموارد، ونقص المياه، وقسوة التضاريس التي عزلت مناطقة وعززت الانتماءات القبَلية وحرمت مناطقه القصيّة من اهتمام الحكومة المركزية أو جعلتها محكومة بالاسم فقط. ومن جهة أخرى، وُصف اليمن بأنه صاحب النظام السياسي التعددي الوحيد في إقليمه، حيث اختبر الحياة الحزبية والانتخابات. لكن عملياته الديمقراطية أديرت –كعادة النسخ العربية من الديمقراطية- بحيث تركزت السلطة في يد طرف مهيمن واصل التشبث بها ومصادرة حصة "الآخر" المحلي من الحكم والامتيازات.
لم نكُن نسمع بطائفيةٍ في اليمن. وباستثناء أقليات لا تُذكر، فإن اليمنيين كلهم مسلمون تقريباً، 56 % منهم سنة شافعيون، و43.5 % شيعة معظمهم زيديون، ومع أن الطائفة ليست سبباً موجباً للصراعات والتمايزات بين أبناء الوطن الواحد والعقيدة الواحدة، فإنه لا يُعرف عن فكر شيعة اليمن اختلاف يُذكر عن السنة. بل إن البعض يصفهم بأنهم "سنة الشيعة" لكثرة قرب نسختهم من مواطنيهم السُّنة، وهم يصلّون معاً في نفس المساجد.
يغلب أن أصل الصراع الداخلي في اليمن (الذي كان أبرز مظاهره التنافس بين الشمال التقليدي والجنوب الشيوعي، وليس الصراع الطائفي) هو المظالم الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية وسوء عمل المؤسسات، مثل أي صراع داخلي آخر في المنطقة. وعلى المستوى النظري، تُحل الأزمات بهذه الأوصاف بالتوافق على صيغة محلية لتقاسم السلطة والامتيازات، وتعزيز الحريات والمشاركة، ربما بمساعدة الخارجيين في التوسط أو/ وتقديم المساعدات الاقتصادية لتخفيف أسباب الأزمة. ومثل أي توسط بنّاء، يجب أن يكون الهدف هو حقن الدم ومساعدة الأطراف على إبرام عقد اجتماعي عادل ومناسب.
سواء كان ذلك في العراق أو ليبيا، أو سورية واليمن، كانت النتيجة الأوضح للتدخلات بالطريقة الأخرى (العسكرية ودعم أطراف محلية ضد أخرى وتشغيلها في حرب التنافس الإقليمي بالوكالة)، هي الدم والموت والدمار. وكان الضحايا هم المواطنين جميعاً بغض النظر عن أي تقسيمات فرعية. ولا يمكن أن يعمل الولاء لأجندات أجنبية في خدمة مواطني أي بلد. وكان من أبرز العواقب تكوين مواطئ أقدام مثالية للجماعات المتطرفة في كل بلدان الأزمة، لتضاعف التخريب والإرهاب.
كانت العبارة الأكثر ترديداً في صراعات ليبيا والعراق وسورية واليمن وليبيا هي "لا حل عسكرياً للصراع". لكن هذا التشخيص الكلامي لم يرافقه عمل متحمس في هذا الاتجاه. واستمرت مشكلة تجاهل حقيقة أن أفضل طريقة لنجاة المنطقة ككل هي إطفاء نقاط التوتر حيث تظهر وليس تأجيجها، وملاحقة السلام والمصالحة ونزع التوتر –بالجهد والمال حيث يتوفر. وقد أثبت عكس ذلك أنه معدٍ ولا يترك أحداً في مأمن من التداعيات. ولعل أسوأ وصفة للتنافس مع الجوار الإقليمي هي تصوُّر إمكانية الكسب بتدمير العمق العربي وتقسيم بلدانه.
المدنيون اليمنيون، العالقون في بحر البنادق والبيادق وسعار الحرب، يموتون وهم يشاركون في الجنازات، أو الأعراس، أو في المدارس أو مستشفيات المنظمات الإنسانية، بسبب "أخطاء بشرية". و"الخسائر الجانبية" في الأبرياء مرافق حتمي لكل صراع عسكري. ومهما تكن مسميات ومسوغات الصراع في أي بلد عربي، فإن "المهزومين" والقتلى لا يمكن أن يكونوا سوى مواطنين عرب من أبناء البلد المعني، وسنكون نحن كلنا خاسرين ومهزومين بطريقة أو أخرى.
يستدعي ذِكر اليمن دائماً تلك الأبيات الأثيرة التي تعلمناها مع الأبجدية: بلادُ العربُ أوطاني/ منَ الشامِ لبغدانِ. ومن نجدٍ إلى يمنٍ/ إلى مصرَ فتطوان. ويعني دمار اليمن انكسار ضلع من وجداننا وهويتنا الفردية والجمعية. ويضاف ذلك إلى الجراحات الكثيرة النازفة، من الشام إلى بغداد وليبيا وبقية "أوطاني" الغارقة في صراعٍ عنوانه: الانتحار العربي الذاتي.
الغد 2017-10-29